أتر

الصَّلَحي: الرسّام حين يفصح عن ذكرياته

في كتابه «بيت الجاك: حوار مع الصَّلَحي» (2011)، سأل فتحي محمد عثمان الفنانَ الكبير إبراهيم الصَّلَحي: «بجانب التشكيل، هل تمارس أيّ نشاط إبداعي آخر؟»، ردّ في هدوء وثقة: «أُمارس الكتابة. أكتب كلاماً بين النثر والشِّعر. وهو كلام يأتي لوحده أحياناً. أكتب شعراً في بعض الأحيان مخلوطاً بالرّسم. الغريبة عقب السجن، بعد ما طلعت برّه، كلّ الكوابيس اللي جاتني صنعتها في شكل كتاب». وقد كان. أصدر «دفتر السجن». كتاب عظيم، رسماً وكتابةً، أو قل كتابةً ورسماً، وهو بلا ريب جزءٌ أصيل من سيرته الموسومة «قبضة من تراب» 2012، التي تألّق فيها رسماً بالكلمات، نابشاً ذاكرته حتى قعرها. وعلى مدى ما كُتب من أدب السيرة، بوصفها جنسَ كتابة، في السودان؛ من بابكر بدري حتى منصور خالد، قِلّةٌ هُم من استطاعوا البوحَ والإفصاحَ بذاك القدر من الجمال، وأضافوا بكتابتهم لذلك التراث إضافة متميّزة، أعلت من الشأن الجمالي والمعرفي.

على الرغم من التلقّي الباهر لسيرته «قبضة من تراب»، إلا أنّ الصَّلَحي كَتَبَ نصّاً بديعاً هنا في هذه الذكريات الصادرة باللغة الإنقليزيّة «At Home in the World: A Memoir» (2022)، وقد أفصح  فيها، بذكاء وبتدفّق آسر، وبلغة إنقليزيّة كثيفة.

كتَبَتْ تقديمَ الكتاب السيدة الفاضلة حور القاسمي، بحديثٍ عن ثورة الصَّلَحي التشكيليّة؛ ثورة على لغة التشكيل المركزي الأوروبي، واستدعاء عناصر من الذاكرة القوميّة في صنعة الرسم والتصوير. وكتب أستاذ الفنون ومحرِّر الكتاب صلاح محمد حسن مقدّمةً تحدّث فيها بلُغة العارف عن منجز الصَّلَحي وإسهاماته المتميّزة حتى لحظة وصوله إلى غاليري التيت في 2013. وأضاء حسن جوانب أخرى من منجز الصَّلَحي، إلى جانب منجزه الإبداعيّ، بوصفه كاتباً نَشطَ في حركة الحداثة في مشهد الفنون البصريّة الأفريقيّة، ونبّه إلى أهمية هذا الكتاب بحسبانه خلاصةَ تجربة الصَّلَحي في الفنّ والحياة.

وبالفعل، في ثمانية فصول مُمتعة، وبلغة السّرد المذهلة، كتب الصَّلَحي عن طفولته ونشأته الباكرة في أم درمان، وحتى بعد تقاعده وتفرّغه لفنّه، أو بعد أن صار صانعاً للصّورة. وقد زَيَّنت فصولَ الذكريات هذه صورٌ فوتوغرافية، وبعض من أعماله كانت بمثابة عناصر مُكوِّنة لبناء السيرة أو مكمِّلة لها.

بذاكرةٍ حفظت تفاصيل المكان عن ظهر قلب، حكى الصَّلَحي في الفصل الأول مولده ونشأته في أم درمان، بوعي باكر بـ «ضرورة الفنّ» واكتشافه ميولَه ورغائبَه في ترجمة تفاصيل ذلك المكان إلى رسم وتشكيل، كتب: «لمّا كانت مناهج الدراسة خاليةً من أية مناهج للفنون… فقد صرتُ أرسم وألوّن خارطة السودان. كان بها نهرٌ يتحدّر من هضابٍ وجبالٍ باتجاه صحارى ووديان، وروافده مُوزَّعة على الخريطة كلّها». لاحقاً، تفجّرت مواهبه في رسوماته التي أوحت بها ذاكرة المكان. يحكي أنه رسم صورةً لزرقاء اليمامة، وكيف أن أحد أساتذته أطلق عليه لقب رسّام/ فنّان المدرسة. وسُرعان ما يكتشف القارئ قدرات الصَّلَحي المدهشة في الحكي، وبذاكرة صلبة، يندفع في تذكّر أدقّ التفاصيل عن الحياة اليومية، وفي كلّ ذلك تجد أنّ ميوله ونزعاته للرسم قد أظهرت موهبته، واستمرّ يؤكّد انتماءه الحميم إلى عالم الفنّ والرسم تحديداً، إلى أن أكمل المدرسة الوسطى. وقد أراد له والده الشيخ الصَّلَحي، المدرّس بمعهد أم درمان العلمي، أن يكون أفندياً بعد إكمال الوسطى، إلا أنّ الشيخ محمد أفندي عبد الرحيم، مؤرّخ السودان العظيم، تدخَّل في الوقت المناسب، وقال له: «يا شيخ الصَّلَحي خلي الولد يكمّل تعليمو». وهكذا التحق إبراهيم الصَّلَحي بمدرسة وادي سيدنا، وتلك لحظة مهمّة في تكوينه وتطوّره الفني، إذ نال ميدالية «نجمة وادي سيدنا»، ونشأت صداقة بينه والطيب صالح دامت حتى رحيل الأخير في 2009.

ومن تلك الأزمنة الباكرة من سنوات التكوين، ينتقّل الصَّلَحي في الفصل الثاني من المذكرات إلى أزمنة التّمدرُس وبيداغوجيا الفنون، وتجربته العميقة في مدارس الفنّ في كلٍّ من كلية الفنون الجميلة والتطبيقية في الخرطوم وكلية سليت للفنون في لندن. وبلغة السرد الباهرة، وبذاكرته غير العادية، حكي الصَّلَحي عن كلية الفنون ورفاقه وزملائه وأساتذته، خاصة جان بيير قرينلو؛ الأب المؤسّس للكلية، والذي جاء إليها بعد عمله في معهد بخت الرضا، وكان فصيحاً في العربية والإنجليزية والفرنسية، كان «… رساماً ومصوّراً فوتوغرافياً وعازف جيتار… وفيلسوفاً». ذكر الصَّلَحي في ما ذكر أنّ قرينلو قد ألّف كتاباً عظيماً عن آثار مدينة سواكن. في سبتمبر من عام 1954، رُشّح الصَّلَحي وزميلاه عبد الله محيي الدين الجنيد ونصيف إسحق جورج للدراسة في بريطانيا. لحظة فارقة في حياة الفنّان، فُتح فيها على العالم من خلال الفنّ ودراسة الفنّ ورحلات متعدّدة ومتنوّعة إلى معارض الفنون والمتاحف في أوروبا. لذلك اتسعت التجربة إبّان الدراسة في لندن. وحينما التحق بالعمل مدرّساً في كلية الفنون، زار الصَّلَحي العديد من دول العالم؛ أمريكا وإيطاليا مصر وفرنسا وإيطاليا والمكسيك وبيرو، فاتّسعت معارفه مزيداً وأبدى اهتماماً بالعمارة والموسيقى والرقص. من أمتع الفقرات في هذه المذكرات، تلك التي يروي فيها ذكريات زيارتهم إلى العاصمة البولندية وارسو لحضور مهرجان الشباب، وقد ظهر في المشهد الراحلان بروفيسور محمد عمر بشير والأستاذة نفيسة أحمد الأمين. انتهى هذا الفصل بزواج الصَّلَحي وعودته إلى السودان.

عاد الصَّلَحي إلى البلاد، وعُيِّن مدرّساً للفنون في الكلية. ههنا، وعبر طرائق الحكي التي تُميّز كتابات الفنّان الكبير وتُضفي ألقاً على الكتابة فيشعّ النصّ وتلسع الحياةُ بوهجها؛ بانت له مواقف ممّا كان يَحدُثُ في السودان آنذاك، وحكى كما لم يَحْكِ أحدٌ، لا من قَبله ولا من بعده، عن انقلاب الجنرال إبراهيم عبود على أول حكومة ديموقراطية بعد الاستقلال، وكيف أنه أورثنا البؤس والشقاء بفتحه باب الانقلابات العسكرية، لما تجلبه من عنف ومصادرة للحريات العامة.

أقام الصَّلَحي أول معرض للفنون من نوعه في الخرطوم عام 1960. وقد سافر في ذلك الوقت إلى أماكن عديدة في السودان، بعين فاحصة هذه المرة، كما قال. على أنّ أهمّ ما جاء في هذا الجزء من المذكرات هو حصوله على «الحلقة المفقودة» في صنعة الرسم والتصوير: الخطّ العربي وبعض الموتيفات الأفريقية، وكيف أنّ الفنان والرسام وأستاذ الفنون في الكلية دينيس وليامز قد أطلق على ذلك التيار اسم «مدرسة الخرطوم» بناءً على ذينك العنصرين. وعلق الصَّلَحي قائلاً: «… من المؤسف أنّ مدرسة الخرطوم لم تُصدر بياناً». توقفت المذكرات طويلاً عند زيارته إلى عبادان في نيجيريا حينما دُعِي لعرض أعماله. وضمن ما أنجزه يومها تصميمٌ لغلاف ديوان شعر للشاعر الكنغولي الكبير تشيكايا يوتاماسي (1931 – 1988): أقرب أصدقاء لوممبا، Brush Fire، وكانت المرة الأولى التي يتعرَّف فيها العالَمُ الأنجلوساكسوني على الشاعر مبدع الملحمة الدراميّة الكبرى عن لوممبا، «فصل في الكنغو».

قبل أن ينتقل الصَّلَحي إلى الحديث عن سفره إلى أمريكا في الفصل الرابع من الكتاب، عرَض 20 لوحة في المركز الثقافي الأمريكي بالخرطوم، وطُلب منه أن يقدّم عرضاً قصيراً حول «ما الرسم»، وعلّق بسخريته ومرحه المعهودين: «لا أذكر شيئاً مما قلتُ في تلك الليلة، لكني أذكر بوضوح تامّ حضور الأستاذ محمود محمد طه». عبر أثينا سافر الصَّلَحي إلى نيويورك، واتّسعت تجربته أكثر حيث تعرّف على عدد كبير من الفنّانين والكتّاب وصانعي الأفلام، واتّسعت رؤاه الفنية وشفّت بزياراته إلى متاحف الفنون، وشهد بأمّ عينه تأثير ثورة المكسيك في 1910 على الفنون المكسيكية دون أية حمولات أيديولوجية، بل كان فنّاً رفيعاً عبّر عن الثورة وما جلبته من تغيير ووعي، إذ إنهم «يشيرون على نحوٍ مباشر إلى سلطة الجماهير وانتصارها على المستبدّين من الحكّام… تعبيراً عن آمالهم في المستقبل وتحريرهم من ربقة العبودية والفقر وإذلال الحكّام». وتوقّف الصَّلَحي كثيراً عند تجربة الفنان المكسيكي تامايو الذي أنقذ الفن التشكيلي من العهر السياسي والعيارات الأيديولوجية التي شاعت في أوساط الفنّانين. وانتهى الفصل بزياراته إلى البرازيل وفرنسا.

عودة إلى أمريكا مرة أخرى في الفصل الخامس؛ وهو من أطول فصول الكتاب، لتتحقّق كثيرٌ من أحلام الفنّان، في تطوير مهاراته وتوسيع اهتماماته بالفنون وزيارة أماكن عديدة ولقاء فنّانين ذوي تجارب متنوّعة. ههنا، تفتَّح ذهن الفنّان على صراع السود من أجل حقوقهم المدنيّة، وكيف تمكّن سكّان المكسيك الأصليّون من البقاء، وتعرَّفَ على مواقف الشباب من حرب ڤييتنام.

«الفنّان والأفندي»، عنوان طريف للفصل السادس في هذه السيرة، عن سنوات عمل المؤلّف/ الكاتب/ الفنّان مُدرّساً للفنون (1966-1969)، وتلك سنوات قضاها في سلام؛ يرسم ويشارك في معارض داخلية وخارجية، كان من أهمّها سفره إلى داكار عاصمة السنغال عام 1966 على رأس وفد السودان لحضور المهرجان الثقافي الأول. وكانت ثيمة المهرجان «الزنوجة»، ومن بعده المهرجان الثاني في الجزائر. بعد هاتين التجربتين، قدم الصَّلَحي برنامجه التلفزيوني الأول «مع الناس»، ولاحقاً برنامجه الأكثر تلقّياً «بيت الجاك». من ثم انتقل إلى العمل الإداري نائباً للملحق الثقافي في سفارة السودان في لندن؛ إلا أنّ الملل والسأم سرعان ما تسرَّبا إلى روح الفنان، وذلك بسبب توقّف نشاطه الفني. واستُدعِيَ إلى الخرطوم وقُدِّمت له وظيفة ندم كثيراً على قبولها، فقد انتهى الأفندي في سجن كوبر، موضوعة كتابه «دفتر السجن».

في فصله السابع، نرى تجربة أخرى مُختلفة أعادته إلى أزمنة الفنّ بعد خلع جبة الأفندي، تلك كانت تجربة عمله في الديوان الأميري بقطر، قرب صفيّه الطيب صالح، ومحمد إبراهيم الشوش، وإسهاماته في مجلة الدوحة. استمرّت تجربة قطر حتى العام 1982. في الفصل الأخير «صانع التصاوير»، إن استعرنا من حسن موسى، حطّ الصَّلَحي أخيراً رحاله في أكسفورد، في بيتٍ له في هذا العالم، تفرَّغ فيه للفنّ، يرسم ويستمع إلى الموسيقى العالمية والسودانية وخاصة المدائح النبوية. «بلغتُ الآن التسعين -2020- وأنا متخمٌ بأفكار عديدة… وسعيدٌ بما أُنتِجه من فنّ».

Scroll to Top