
«أعرفي مقام نفسِك براك
ما تسألي الزول المعاك
…
تباشي كلبة ميتة
كلبة ميتة، كلبة ميتة
جنوبيين نار الضَّلِع
علي تباشي في الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
بِسْ!
حميدتي نار الضَّلِع!
الساكن جبرة نار الضَّلِع!
في المخدّة».
من أغنية «نار الضَّلِع» للفنانة مروة الدولية.
وَقَع الدكتور محمد بخيت في حي البركة «كرتون كسلا» في الفترة 2010-2012 على مفهوم «الطبقة»، وإنْ لم يَنطق به صراحةً، ولم يكن من عدّة شغله، وقد جاء بمفاهيم من الإثنوغرافيا والأنثربولوجيا وليس الاقتصاد السياسي. لكن لم تَقْدر هذه المفاهيم على الإحاطة بما شَهِدَ من تحوّلات، ولم تسعفه في تمييز فئات التكوين الاجتماعي الضاجّ بالانقطاعات والتقلّبات أمامه، فانتهى إلى تبويبٍ «طبقيّ» بين ثلاث فئات على حدودٍ غير حدودِ العِرْق والإثنيّة واللّغة. قام تبويبُ الدكتور محمد بخيت لمجتمع حي البركة على مفصلَيْن، سُبل كسب العيش، والجيل. والمفصل الأوّل من حَرْث الاقتصاد، والثاني معاملٌ للتحوّل عبر الزّمان والمكان، معاملٌ للتغيير، وهو المعامل الذي يُشنّف تبويَبه بفطنة الديالكتيك؛ الفطنة التي تتيح إدراك التحوّلات في حال تحوُّلها وتحرُّر البصر من صنميّة الآن. فاصَلَ الدكتور محمد بخيت بين ثلاث فئات بينها قناطر، فهي ليست زنازين انفراديّة، ولكنها جهاتٌ في حوش واحد، أو حوش وَرَّاني وحوش قِدَّامي وزقاق طويل بينهما، وأكثر من باب نحو الشارع.
الفئة الأولى جيلٌ مخضرمٌ من الزعامات الأبويّة، عُمَد ورجال عشائر ورجال دِين، مَعاشُهم سَلْخٌ من رأس المال الاجتماعي، فما يجدونه من حظوةٍ هو دالّةٌ لمكانتهم الاجتماعيّة وما يستطيعون من سُلطة على محدوديّتها في محيطهم المباشر. فمنهم صاحب الموقع في «اللجنة الشعبية» إيّاها؛ القائم على توزيع الأراضي أو تسليعها، فيكتب لنفسه وأهله قطعة رقم (…) تلو الأخرى. ومنهم الرجل الأوّل في السوق، قوَّال المحليّة، مَن يختار لنفسه الدكّان الناصية على الزّلط، ويحرم غريمه من الرّخصة التجارية أو يسلّط عليه جماعة الضرائب. ومنهم وصلة ديوان الزكاة في المنطقة، يحدِّد مَن الأرملة التي تستحقّ العون، ويُقَوِّل على الأخرى ببيع العَرَقي، ويوزّع بطاقات التأمين الصحّي على أهلٍ وأحبابٍ ويُمسِكُها عن آخرين، طَليقِ البنت وأهلِه. ومنهم صاحب العِمَّة السياسيّة الكبيرة، سمسار الجماهير الذي يجمع الناس كيفما اتّفق ليوم المَسيرة ويوم الانتخابات مقاولةً، الواحد بعشرة وسكراتش، تعال وجيب معاك أخوك. وقد تجتمع هذه الشخصيّات في نفسٍ واحدة، بَنْجْ متعدّد الوظائف كالمفتاح الإنجليزي؛ عشرة سُنون وسِنَّة.
والفئة الثانية جيلٌ تالٍ من المتعلّمين، منهم مَن نشأ في كنف الجيل المخضرم فاستفاد ممّا أتاحت تلك المجازفات من تراكمٍ وتحرّرٍ من كَدّ المعاش طفلاً، فسَلَك في التعليم وتدرَّجَ حتى بلغ مهارة الوظيفة ولو نَفَرْ في البوليس، أو من وَجَد نفسَه عند شطّ الكونكا بقَضْم التضخّم وتدهور المعاش، فجاء إلى حي البركة نازحاً. ضمَّ الدكتور محمد بخيت إلى هذه الفئةِ الباعةَ بأجناسهم، من صاحب الدكّان الناصية إلى ستّ الشّاي وستّ العَرَقي. والمشترك بين هؤلاء وأولئك أنهم جميعاً ممن وَجدوا موقعاً في السوق واقتصاده، واتّصلت أسلاكهم بهذه الكبّانيّة الكبيرة إذا جاز التعبير، وصارت لهم بذلك مصلحة مشتركة في رعاية قواعد «النظام» أيّاً كانت، يَعرفُ أحدُهم بأيّ وسيلةٍ يَبلُغ الرّخصة التجاريّة، وبأي ثمن، وكيف يراوغ جماعة المحليّة، وبأي تكتيكات، وكيف يتفادى بأس النظام العام، بِجازِفها.
أما الفئة الثالثة، الأحدث والأعظم، فهي الفائض الذي لا موقع له يَعتدُّ به في «النظام» قائماً سوى كاحتياطٍ يَنْكَشِح حول بنائه؛ كُسَّار طوب ورمل وروث، فهو داخل فيه وليس منه في آن واحد، فائضٌ من «الشمّاسة» و«العصبجيّة»، معاشُهم في «الشّفْشَفة» بصور مختلفة، والزمالة بينهم «العصابة»، فريق عمل لمهمّة تتجدّد بالنجاح وتنهدّ بالفشل. ومَوقعُهم «بَرّاني» على قواعده، فلا وسيلة لهم للاستفادة من هذه القواعد، لا ينفعهم شيئاً أنّ زوجة زعيم اللجنة الشعبية الجديدة هي أختٌ لصاحب البنشر السُّكُرْجي من الحِلّة الفوق، ومن أراد رخصةً لكُشكٍ فلصاحب البنشر واسطةٌ ونصيب. فلا وسيلة لهم للفوز بنصيبٍ من الثروة الاجتماعيّة غير «المُزازاة» فوق المجازفات أو «شَفْشَفة»، وهي «هَمْبَتَة» بغير النُّبل الشاعري، حُجَّتهم على الناس: إنتَ أبوك بيدِّيك، نحن البيدِّينا منو؟
وعقدة «الشّفْشَفة» كما «الهَمْبَتة» أنها لا تَبلُغ التراكم، فآخر محطّتها الاستهلاك، وتبدأ الدّورة من جديد. وغرَضُ بطل العصابة الأوّل كغرض «الهَمْبَاتي» مِن قَبله؛ «مُتْعَتِي وعَجَنِي»، في الآن، وليس غداً. لذلك قد تهجم عصابة محترفة على سوق 6 في الحاج يوسف للَهْوِ يومٍ وحفلة دي جي لا غير. وللعصابة، متى نجحت، شفرةٌ من الإشارات غير المنطوقة تشمل «تعليمات» الهجوم والانسحاب قد لا تدركها حتى عصابة منافِسة.
وللعصابات أسماء وشعارات وأزياء. قامت في الحاج يوسف عصابة «لوست بويز» لبطلها «تنقو»، وقَبْلها في جمهورية الكَلاكلة، منذ منتصف التسعينيات، عصابة «أولاد جون» التي انشقّت لاحقاً بالصراع على القيادة والسيطرة والفوز بالبنات إلى «السعادة» و«آوت لو» لزعيمها الشبلي. ولبطل العصابة قياسٌ كذلك، فما هو في القانون نهبٌ وأذىً جسيمٌ وشغبٌ وتهديدٌ للسلامة والطمأنينة العامة عنده مفخرة، خاصّة إنْ كسَر بها حاجزاً فبلغ خبرُه الصحيفة أو التلفزيون. ويميِّز العُصبَجي المحترف بين «السرقة» و«النهب» فلا يسرق خلسةً، ولكن ينهب بقوّة وحُمرة عين. والعُصبَجي في موقع متقدّم ضمن هذه الفئة، فهو بطلُها بما أصابَ من فتوّةٍ وقدرةٍ، ويُميِّز نفسَه باللِّبس والهندام على نمطٍ كوسموبوليتي من طراز الهيب هوب الأميركي، بنطلون شوّال وتلاتة أربعة فنايل وسايد كاب وسلاسل، وكذلك الرّقص والحفلة. ودون العُصبَجي المحترف فئاتٌ أوسع وأقلّ حظاً، مَن يعرّفهم البوليس بعبارة «معتادي الإجرام» وفيهم الحرامي المتواضع، مَن يسرق ملاية أو مراية عربيّة، والنشَّال، ومروِّج البنقو، ومُروّج الآيس، ومن لم يُحسن أيّاً من هذه الوظائف فيبيع المتعة في الخور، فما طبقتهم؟
يُتبع