
يعيش السودان وقتاً عصيباً منذ نشوب حرب أبريل قبل قرابة العامين. وبدأ الناس رحلات نزوحهم ولجوئهم المتوالية، بحثاً عن الأمان. وجَد الفنانون والمبدعون أنفسهم في دوائر النزوح تلك، فمنهم من نجا بنفسه في مدن مثل بورتسودان وكسلا وغيرها، ومنهم من قرّر مغادرة البلاد إلى الدول المجاورة، مثل مصر ويوغندا وإثيوبيا وكينيا، ومنهم من بقي يقاوم في المدن التي امتدّت إليها أيادي الحرب. ومع ذلك ظلّوا يقيمون فعالياتهم ومعارضهم أينما حلُّوا.
ولإيمانهم التامّ بدَورهم المحوري في صنع السلام، عمل الفنانون على ابتداع فنونٍ تحكي قصص السودان خلال الحرب، ليُواصلوا تبشيرَهم بالسلام الاجتماعي ونبذ العنف. ولأنّ السلام الحقيقي يبدأ من الأرض، انخرط الفنانون السودانيون في فعاليات تعكس حجم الدمار الذي خلّفته الحرب، وذلك في مناطق نزوحهم أو ملاذات لجوئهم المختلفة. في هذا التقرير استعراض لبعض الفعاليات الثقافية التي أقيمت طوال فترة عامين من الحرب داخل السودان وخارجه.
في الفاشر: العلاج بالصّدمة
«العلاج بالصّدمة»، هي مسرحية للمخرج الرشيد الطاهر رئيس نقابة الدراميين السودانيين بولاية شمال دارفور، عُرِضت في مارس 2024 في يوم ترفيهي للنازحين في مركز الرّدِيف للإيواء.
متحدّثاً لـ «أتَـر» يقول الطاهر إنها تحكي عن بداية الطلقات الأولى لحرب أبريل في سوق حجر قَدُّو بالفاشر، لترصُّد اللحظات الأولى لحرب أبريل وحال المواطنين في الفاشر: كلٌّ يحمل ما يخصّه متّجهاً إلى عمله وملامح سوق حجر قدّو في ساعات الصباح الأولى كلّ يوم، نداءات الكماسرة على مواقف المواصلات، أصوات فتح الأقفال الكبيرة في دكاكين التجّار، عربات النفايات التي تمرّ على سوق «چيلي» لجمع مخلّفات الخضار وما يتبقّى تحت ترابيز الجزّارين، أطفال الشوارع وهم يخرجون من تحت الكوبري، أفراد الشرطة أمام بنك الخرطوم، بُرام الحليب وصيجان الزلابية على رواكيب بائعات الشاي، درداقات الباعة الجائلين، وترابيز الفرّيشة تتأهب للبيع، الشوارع مكتظّة بالمارّة المتسوّقين تجهيزاً لعيد الفطر. وسط كلّ هذا الزخم، يبدأ إطلاق أولى الرّصاصات التي تُنذِر بلحاق فاشر السّلطان بالعاصمة الخرطوم، ليجد الجميع أنفسَهم يتّجهون إلى الجنوب لأنّ المعارك بدأت من اتجاه تمركزات الجيش والدعم السريع شمال غرب المدينة.
يُنزَل الستار على المسرح بعد متابعة هذه اللحظات، لتُفتح من جديد على مشهد ما بعد الحرب، ليتلاقى الجميع ويُعانقون بعضهم بعد غياب طويل بسبب حرب طاحنة علّمت الجميع دروساً كثيرة أهمّها محو الحزازات عن النفوس والعفو والمصالحة حتى تنقطع سلسلة الدم.
عبر هذه الفعاليات، ظلّ الرشيد وبقية الدراميين في المدينة يدعون الجميع إلى قبول الآخر ونبذ خطابات الكراهية والجهوية. واستمرّت أنشطة النقابة حتى أواخر شهر أبريل 2024 الذي اشتدّت فيه وتيرة الحرب ونُقلت فيه أرض المعارك إلى جنوب المدينة وفرّ معظم الأعضاء إلى خارجها.
في كسلا: منتدى الأربعاء
فتَح اتحاد المهن الموسيقية بمدينة كسلا أبوابه ليُضْحي داراً تأوي الفنّانين والموسيقيّين النازحين من غلواء الحرب بالخرطوم والجزيرة، وتشكّلت لجنة تجمع الفنانين النازحين وفناني كسلا، فتَفتَّقَتْ منها فكرة المنتدى الذي أسهم في تعزيز الروابط بين الفنّانين والتواصل بين الجيلين القديم والجديد، عبر عرض إبداعات الشباب وتحكيم الكبار منهم. ومع مرور الوقت أصبح المنتدى راتباً كُلَّ أربعاء، ليتحوّل أخيراً إلى منتدى تفاعليّ ومستراح لمُحبّي الفنّ من مناطق كسلا المختلفة، فأصبحت الدار حافلة بالجماهير.
وتحوّل اتحاد المهن إلى نقطة لتلاقي أهل الفنّ بمختلف ضروبهم، يمارسون أنشطتهم ويقيمون المنتدى بالدعم الذاتي لتلبية متطلّباته البسيطة، كإيجار الكراسي والضيافة ومعدّات الهندسة الصوتيّة، ثم توسّعت الأنشطة مع زيادة جمهوره فأصبح يعرض الشِّعر والمسرح. وقال معاذ العطا، عضو الاتحاد، لـ «أتر»، إنّ الدّار أصبحت حافلةً بوجود جميع أهل الفنّ طوال أيام الأسبوع ترتيباً ليوم الأربعاء.
وشهدت مدينة كسلا بشرق السودان، في يونيو 2024، بالتزامن مع أيام عيد الأضحى الماضي، تدشين عرض مسرحية «بنات في ورطة» بمسرح تاجوج، من تأليف أحمد دفع الله عجيب، وأسامة الشمباتي مساعد المخرج، وأخرجها الدكتور علي سعيد. وهي مسرحية اجتماعية تهدف إلى دعم ومناصرة النساء عبر طرح الأسئلة ومحاولة تلمّس جذور قضاياهنّ في التراث، وانعكاس ذلك على الحاضر.
كما شهدت المدينة نشاطات أخرى مثل الأمسية الشعرية للشاعر محمد محمود الشيخ «مدني»، التي تداعى لها محبو الشاعر في كسلا والمدن الأخرى، ومعرض المصور الفوتوغرافي حسين صالح أري في شهر أغسطس 2023.
في بورتسودان: ذاكرة العابرين

أضحت مدينة بورتسودان، التي انتقلت إليها أعمال حكومة البلاد بعد الحرب وضجّت بالنازحين، مركزاً للفاعلين الثقافيين من مسرحيين وتشكيليين وموسيقيين، أقاموا فعاليات كثيفة ومتنوعة: عروض مسرحية، ومعارض تشكيلية، ومعارض للتصوير الفوتغرافي، وفعاليات سينمائية.
وأصبحت المدينة خلال الحرب نقطة عبور وانتظار، فبعض الفنّانين الذين وصلوا بورتسودان كانوا في انتظار انقضاء الحرب والعودة إلى منازلهم، وآخرون اتّخذوها محطةً لإكمال إجراءات سفرهم إلى خارج البلاد. ومن هذا الحال استُلْهِمَ معرضُ «ذاكرة العابرين»، الذي شارك فيه ثمانية فنّانين تشكيليين.
متحدّثاً لـ «أتَـر» يقول الفنّان فيصل تاج السر: «جاءت فكرة المعرض قبل ذهاب الفنّانين إلى وجهاتهم المحدّدة، ولكلّ منهم كثير من الأحلام والآمال عن سودان الحرب التي أوقفت قطار حياة السودانيين وقلَبت حيواتهم رأساً على عقب، وجعلتهم في انتظار على السلام المُرتقب». وأقيم المعرض في أكتوبر 2024 بـ «منصّة إسبيس»، وهو مركز أعمال استضاف أنشطة كثيفة في الفترة الماضية. وضمّ المعرض 34 لوحة للفنّانين أباذر نور الدين، فيصل تاج السر، الصادق محمود، عبد الرحمن محمد «جوكس»، محمد موردة، صالح عبدون، منى الفاتح، محمد أحمد أوهاج.
ويقول تاج السر إنّ فكرة المعرض مُستلهَمة من أجواء المدينة بعد الحرب حيث يلتقي العابرون من الفنانين داخل المدينة، كلّ يعرض فنّه سواءٌ أكان صوراً فوتوغرافية أم رسماً أم موسيقى أم مسرحاً، ويضيف أنّ المعرض مثّل فرصة جيّدة للتلاقي وتبادل الخبرات وعرض الإبداعات، فضلاً عن التواصل بين الأجيال من قدامى الفنّانين والصاعدين منهم.
في القاهرة: خطوط الرحلة

قضى الفنّان التشكيلي والموسيقيّ عبادة جابر، بعد اندلاع الحرب في الخرطوم، وخروجه منها، قرابة أربعة أشهر في مدينة حلفا القديمة بشمالي السودان في انتظار الحصول على تأشيرة الدخول إلى مصر، لكنه منذ لحظة وصوله الأولى انغمس في تفاصيل المدينة، ليرسمها بالأدوات القليلة التي استطاع جلبها معه من الخرطوم، بعد استحالة الوصول إلى مرسمه مع الحرب المشتعلة منذ الخامس عشر من أبريل 2023، لتتشابك خطوط رحلة الفنّان وتفاصيل مدينة حلفا القديمة وذاكرة حرب الخرطوم. استطاع عبادة الوصول إلى القاهرة ليبدأ رحلته من جديد بعد خسارته عدداً مقدّراً من أعماله بالخرطوم جراء الحرب، وليُقيم معرضه الأول بعد الحرب بساقية الصاوي بالقاهرة، والذي استمرّ منذ الثاني عشر من نوفمبر 2023 وحتى الثامن عشر منه.
ضمّ معرض عبادة جابر، لوحات بالأبيض والأسود، والألوان، ترصد تفاصيل مدينة حلفا وشخصياتها من سكّانها والعابرين إلى الجهة الأخرى، ويُوظِّف فيها مزيجاً آسراً من الفنّ يتجاوز الحدود بين الصّوت البصر ليخلق رحلة فريدة ومتعدّدة الحواس، حيث ضربات الطلاء النابضة بالحياة تتناغم مع إيقاعات الموسيقى. يقول عبادة: «كانت مدوّنتي الصوتية بالموبايل هي وسيلتي لالتقاط ما أنف، ودفتر الرّسم ما زال صامداً يحكي قصصه، وجدت نفسي متقبّلاً ما حدث، أمتلك الإيجاب والتحفيز والتركيز المناسب للبناء»، ويضيف: «قضيتُ أربعة أشهر بحلفا، ولم أتوقّع أن تطول فترة بقائي فيها، لكن ثمرة ذلك شكّلت لوحات معرض «خطوط الرحلة»، لتنتظم داخل الرسومات، بتفاعل لصيق، مجرياتُ الأحداث اليومية لتلك الفترة. الرسم كان مجالاً لالتقاط المشهد ولإحداث حوار خاصّ حول كلّ قضية ثم طرحها مجتمعياً».
بعد الحرب وفقدان مرسمه بالخرطوم، يسعى عبادة إلى استجماع شتاته الذاتي، إضافة إلى أدوات عمله، سواءٌ أفي الموسيقى أم التشكيل.
في نيروبي: خيوط الروح

هو معرض تصوير للمصوّرة الفوتوغرافية وصانعة الأفلام هناء أبوبكر، أقيم بالعاصمة الكينية نيروبي في 24 ديسمبر الماضي يحكي قصص النساء ومعاناتهن بسبب حرب أبريل.
متحدثة لـ «أتَـر»، تقول هناء إنّ فكرة «خيوط الروح» مُستلهمة من قضايا السيدات السودانيات، مُضيفةً أنّ المعرض هو الفصل الأول للمشروع التوثيقي الكبير الذي ظلّت تعمل فيه منذ خروجها من السودان، ومواجهتها معاناة كبيرة، وتقول إنّ حالها حال سيّدات كثيرات عانَيْنَ أيَّما معاناة حتى وصل بهن الحال إلى العمل لساعات كثيرة متواصلة لضمان توفير لقمة العيش خلال الحرب.
تقول إنّ الخيوط تحكي وتعبّر عن المشاعر المختلفة والمقاومة اللامتناهية، إذ إنّ تشابُك الخيطين الأحمر والبرتقالي يعبّر عن معاناة النساء اللاجئات إلى مناطق مختلفة حول السودان، ومقاومتهنّ لكل القيود والتحديات التي واجهنها أثناء الخروج، وأرادت عبر تلك الخيوط عكس الأحاسيس الداخلية للسيدات وتأرجُحهن بين شدّة المعاناة وقوة المقاومة حتى الاستقرار.
«هذه الخيوط تُعبّر عن الوحدة وانعدام الأمن والغذاء والدواء والعنف الجنسي، ومواجهة الارتكازات لأطراف النزاع المختلفة والسؤال عن أذون السفر، والحبس ساعات طويلة أو أياماً بتهمة الهروب إذا لم يتوفّر إذْن السفر. وعبر هذه الخيوط أردتُ هنا التعبير عن الأحاسيس الداخلية للسيّدات وتأرجُحهن بين شدّة المعاناة وقوّة المقاومة حتى الاستقرار»، تقول هناء التي أقامت معرضها بمقرّ مؤسسة «تلفزيون» التي اختار القائمون عليها نيروبي مقرّاً لها بعد الحرب.
وأصبح مقرّ «تلفزيون» مساحةً تجمع سودانيّي نيروبي للتلاقي وإقامة فعالياتهم الاجتماعية والثقافية. حذيفة الفيل أحد القائمين على «تلفزيون»، وصف لـ «أتَـر» مقرّهم بأنه أصبح مساحة للعمل المشتركة لإنتاج المحتوى الثقافي ودعم المبدعين السودانيين في نيروبي، عبر تقديم تسهيلات لإقامة فعالياتهم الثقافية وغيرها، وذلك بتوفير المعدات اللازمة سواء كانت لصناعة السينما أم إنتاج البودكاست، فضلاً عن البازارات التي يقيمها السودانيون على هامش الفعاليات الثقافية، بعرض مصنوعات يدوية تعكس الهوية والثقافة السودانية.