
في الـ 20 من مارس الجاري، مرَّت الذكرى الثالثة عشرة لرحيل الشاعر محمد الحسن سالم «حمِّيد»، نتيجة حادث مروريّ، وهو في طريقه من نوري بالولاية الشمالية إلى الخرطوم، ليُدفن بمقابر البنداري بالحاج يوسف عن عمر ناهز الـ 56 عاماً، تاركاً منجزاً شعرياً ضخماً يُمسك بكيان السودان ووجدانه شعرياً. لم يكن شاعراً فحسب، بل بصيراً بتقلّبات الحال السوداني.
وُلِدَ حمِّيد بقرية نوري بالولاية الشمالية، وتلقّى بها تعليمه الابتدائي والأوسط، قبل أن ينتقل إلى مدينة عطبرة لإكمال المرحلة الثانوية بها. عمل الشاعر بهيئة الموانئ البحريّة منذ العام 1978 حتى أُحيل للصالح العام في 1992. برَزَ اسمه شاعراً مع نهايات حقبة الدكتاتور نميري، ولاقت قصائده إعجاب السودانيات والسودانيين، لارتباط شِعرِه بحركة المقاومة والهمّ اليومي ومعاش الناس، فضلاً عن استخدامه مفردات اللهجة المحلّية في شمال السودان. وراجت التسجيلات الصوتية بين محبّي شعره، وقد أجاد الإلقاء فيها بصوته عبر شرائط الكاسيت حتى أوائل الألفية الثالثة، وأصدر عدة دواوين شعرية، منها «حجر الدّغش»، «نورا»، «الجابريّة»، «ستّ الدار»، «الرجعة للبيت القديم»، «مصابيح السّما التامنة وطشيش»، «أرضاً سلاح»، وهي آخر مجموعة شعرية منشورة له.
ويُعَدُّ حمّيد امتداداً لأصوات الحداثة الشعرية الدارجة، من لدنّ هاشم صديق ومحجوب شريف والتيجاني سعيد، وزهوها مع عمر الطيب الدوش، وهي تجارب شعرية باذخة لم تبتعد يوماً من الشأن السياسي والعام، وبرز صيتها الأعلى إبان مقاومة الحكم الديكتاتوري المايوي في السبعينيات. وتتّسم قصيدة حمّيد باشتباكها مع الهموم والقضايا العامة، التي لامست أسماع الناس قبل أن تُقرأ في دواوينه.
وقد ترافق اسْمَا حمّيد ومحمد طه القدّال، منذ سبعينيات القرن العشرين، في المنتديات الشعرية، كلّ بطريقته المميّزة في كتابة الشعر وإلقائه.
ويرى الشاعر الصادق الرضي، أنّ لحميد إسهاماً كبيراً في تعميق حداثة القصيدة الشعرية الدراجة المُصوَّتة في السودان، ساعده في ذلك إلمامه الواسع بالمفردات الثقافية وتجارب الحياة السودانية الثرّة، ومنها تجربة شعراء الهامش في سبعينيات القرن الماضي، وضمّت طيفاً واسعاً من المثقّفين والمشتغلين بالهمّ العام، عندما كانت ديكتاتوريّة مايو تفرض قيوداً على النشر والظهور وقتها، فبات مُنتدَيَا «تجاوز» و «الجندول» منصّات للعديدين، وهما بذرة اتحاد الكتاب السودانيين. ويُمَاثِلُ الصادق في حديثه لـ «أتَـر» بين تجربتي حمّيد والشاعر التركي ناظم حكمت، في الالتزام بالوعي والحداثة والالتزام السياسي بمختلف مهامه الاجتماعية واليومية، إذ اتخذ الأخير اللغة المحكيّة سبيلاً لقصائده وكذا حمّيد، وقد تُرجمت قصائد ناظم إلى اللّغات أخرى رغم صعوبة الترجمة الشعرية من الدارجة للغات أخرى.
«عند إلى الاستماع إلى الملاحم التي سطرها حمِّيد بصوته، نتلمّس في عمقها شاعراً مُتّكئاً على عناصر بناء القصيدة في أشراطها الأسطوريّة والفلسفية واستلهام التراث، والكينونة والصيرورة، ويتّضح هذا جليّاً في اختياره الإيقاعات المختلفة للمقاطع المختلفة وتركيبها في نسيج واحد، وهنا يَبرز التلاقي بين الحسّ الشعري والبناء الدرامي»، يضيف الصادق.
ومثلما تصادَت الحركتان الثقافيّتان السودانية والمصرية منذ بواكير القرن العشرين، نشأت علائق وُثقى بين حمّيد وتجارب شعراء الدارجة المصريين المعاصرين له مثل عبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم. وقد تناول عدد من الموسيقيين قصائد حمّيد تغنّياً، إلا أنّ الارتباط الأكبر كان مع الفنان مصطفى سيد أحمد، الذي رثاه الشاعر بملحمة «مصابيح السما التامنة وطشيش».
وإضافة إلى اختراقاته الشاسعة في اللغة الدارجة، نظَم حمّيد قصائد عديدة باللغة الفصحى، منها النصّ المشترك مع الشاعر والناقد أسامة الخوّاض بعنوان «ماريل»، بعد انتفاضة مارس أبريل 1985.
في دراسةٍ عن العناصر الدرامية في شعر حمّيد، للشاعر عادل سعد يوسف قُدِّمَتْ في أكتوبر 2020، ضمن الدورة الثالثة لملتقى الخرطوم لنقد الشعر السوداني، يرى كاتب الدراسة أنّ استثمار الشعر السوداني للعناصر الدرامية قد أضاف إلى رصيد القصيدة السودانية أبعاداً لم تكن تحوزها لولا هذه القدرة الإبداعية للشاعر وسعيه إلى استكشاف تقنيات تعبيرية قادرة على توصيل تجربته الشعرية في أبعادها المتعدّدة، وهو ما ينطبق على تجربة حمّيد لا سيما قصيدة «الضَّو وجَهْجَهَة التَّسَاب»، التي اعتمدت عليها الدراسة.
وأبرزت الدراسة تمظهرات البناء الدرامي التي استعملها الشاعر في تشكيله الإبداعي، مُستخدماً تقنيات الدراما مثل السرد والشخصية والصراع والحوار وغيرها. وتخلص الدراسة إلى أن قصيدة حمّيد حالة نوعية، انطلاقاً من ملامح الدراما الشعرية التي امتلكتها، فالدراما في الشعر تنتقل بالقصيدة من الذاتيّة إلى الموضوعيّة من خلال مكوّناتها، وقد ظهرت البنى الدرامية بجلاء في قصائد حمّيد المطولة. وفي حديثه لـ «أتَـر» يقول عادل إنّ التجربة الشعرية لدى حمّيد مُحملة بالرموز الثقافية، التي أثرت على التجربة الإبداعية للشاعر ومنحته تميّزاً وتفرّداً، ولقد أثرى تجربته بالانفتاح على الأجناس الأخرى المُجاورة كالقصّة والرواية والمسرح والدراما والسرد والسينما والرسم، لذلك تحتاج هذه التجربة إلى قراءة فاحصة وواعية وإلى مُتلقٍّ نموذجي يعمل على سبر أغوارها.
يتّفق المخرج المسرحي والدرامي ربيع يوسف الحسن، مع عادل في مقاربته، وفي أنّ مشروع حمّيد الشعري ينهض على اتساعٍ من المسرحة والإعداد الدرامي، فقصيدته مُمسرحة، بشخوصها المُكتملة حياةً، وببنائها القصصيّ المُحكم والمُمتلئ بالمفارقات الدراميّة والتحوّلات الراديكالية أحياناً، وبفضاءاتها السينوغرافية والبصرية المرسومة من خلال القصائد خاصةً لدى سماعها منه، وبما تنطوي عليه من تحوّلات تلقائية ومنطقية تنتمي إلى البناءين الدراميين التقليدي وما بعد الحداثي معاً، وهو ما امتاز به حمّيد. لكن أكثر ما يجعل قصيدة حمّيد ممسرحة هو أنّ مشروعه يرتكز على بناء مشهدٍ تأسيسيّ عام لدى ابتدائه أيّ قصيدة، ومن ثم يدلف إلى ما خطَّه في تأسيسية المشهد، ورويداً رويداً إلى تفاصيل دقيقة لا تستطيع التقاطها إلا كاميرا مخرج وسينارست حصيف، فالشحنة الشعورية والفكرية والفلسفية لقصيدة حمّيد مكثفة جداً.
ويعيب ربيع على الحركة المسرحية والدرامية قصورها في اتخاذ حمّيد واحداً من الشواهق والمصادر الثرية لكتابة الدراما والإخراج وعلى جميع المستويات، وينسحب هذا على عديد المبدعين السودانيين في مختلف دروب الإبداع. ولذا يرى ربيع أنّ موقع حمّيد في الثقافة والحركة الفنية في السودان ما زال مؤجّلاً، وسيكون مدّخراً لأجيال قادمة من المسرحيين والدراميين السودانيين تُنشئ منصّات بحثية ومعرفيّة جادّة لإيفاء حمّيد نصيبه المستحَقّ.