أتر

حكاية مُنَى: عندما تزور الحرب القُرى

هذه قرية صغيرة وادعة، اسمها مُنَى، تقع في محلية الحصاحيصا غرب ولاية الجزيرة، وتتبع لوحدة المِحِيريبا الإدارية. كانت حرب 15 أبريل أوَّلَ حدثٍ مفصليّ تعيشه القرية، إذ لم تكن تعرف قبلَها سوى الزرع والمرعى والضجّة التي تُحدثها عودة الحيوانات عصر كلّ يوم. وكلّ ما يحدث في العالم، ربما يسمع به أهل القرية أو لا يسمعونه. تكاثَرَ أهلُ منى من صُلْبِ ثلاث عائلات، ستة أزواج اتخذوا القرار بأن يُنشئوا مساكنهم بالقرب من مزارعهم وبذلك خرجت إلى العالم هذه «المُنية».

في البدء كانت السياسة أمراً لا يُتقنه سكّان هذه القرية، ولا يزالون. رجل واحد فقط كان عضواً في اتحاد ما، واستطاع أن يُطوِّر مباني المدرسة والمسجد، وحاولَ إنشاء مركز صحّي لخدمة أهل القرية والقرى المجاورة. في انتخابات العام 2010، التي كانت حدثاً جللاً، حملته مايكروفونات السيارات داعيةً الأهالي للتصويت، استجاب جميع من في القرية، ليس لأن ذلك يهمّهم بالفعل، لكنه كان أمراً مشوقاً، منحَهم الشعور بعظمة المشاركة في اتخاذ القرار على مستوى الدولة، دولة الخرطوم التي يراها معظمهم حلماً بعيداً. لذا، عندما بدأت الحرب هنالك، وشرعت القرية في استقبال النازحين، بصدر واسع وترحيب حارّ، كان قدوم الوافدين حدثاً أسطورياً وقف عنده الجميع صغيرهم وكبيرهم؛ إذ يتعيّن عليهم أن يجدوا منازل لهؤلاء المساكين، وعليهم أن يوفروا طعاماً مناسباً للنازحين من الخرطوم.

عد أيام قليلة دخلت القريةَ أسرةٌ أُخرى، ورحَّب بها السكان، لكن المشكلة في أنه لم يكن هناك منزل فارغ، لذلك أنزلوها في المدرسة، وبعد ساعة أتى عبد الله مهرولاً وأقسم بأنه مستعدّ للخروج من منزله لأجل الأطفال وأمّهاته

هاجت القرية وماجت عندما قَدمَتْ أول أسرة نازحة لا علاقة لها بالقرية «جابهم الدرب»، فالمسؤولية تجاه الغريب مضاعفة. لقد جلس كبار القرية لاتخاذ قرار الموافقة على احتواء الأسرة القادمة، وتشاوروا مع أولاد أحمد في أن يمنحوهم منزلهم الفارغ إلى أن يُحدِث الله أمراً كان مفعولاً، وقد حدث. لم تمرّ ثلاث ليالٍ حتى زارت «زهرة» الجميع وصادقت جميع فتيات القرية في أقل من أسبوع، و«زهرة» هي بنت الأسرة النازحة الوحيدة حينئذٍ. بعد أيام قليلة دخلت القريةَ أسرةٌ أُخرى، ورحَّب بها السكان، لكن المشكلة في أنه لم يكن هناك منزل فارغ، لذلك أنزلوها في المدرسة، وبعد ساعة أتى عبد الله مهرولاً وأقسم بأنه مستعدّ للخروج من منزله لأجل الأطفال وأمّهاتهم. لم يكن هذا التوافد متوقّعاً، فلطالما كانت القرية غير معروفة ونادراً ما يدخلها غريب، ولم يكن ليعرف دربها أحد، لكن الحرب فعلت فعلها.

كانت الفاجعة عندما دخلت الدعم السريع القرية. في البدء لم يغادر أحد، وكان الجميع يتوجّهون إلى الحوّاشات ويَختبئون إلى أن يخرج أفراد الدعم السريع من القرية. لقد كانت عيونهم مصوّبةً على السيارات القليلة الموجودة وبعض الممتلكات. على كلِّ حال، كانوا يأتون كلَّ يوم ويُداهمون المنازل، فيخرج أصحابها مُروَّعين تاركين خلفهم محاصيلهم وأغنامهم والقليل الذي يملكونه. عاثت الدعم السريع في القرية فساداً، ونهبت كل ما استطاعت، ولم يتبقّ لأهل القرية حتى الرغيف. عندها فكروا في النزوح. يصف الناس تلك الأيام بأقسى العبارات. تقول السيدة فاطمة: «بنتي وضعت مولودها قبل يوم من دخولهم، كانت تجري كلّ يوم إلى الخلاء بجرحها وألمها وطفلتها الصغيرة خوفاً من الجنجويد». وتُضيف السيدة عائشة: «أسبوع كامل كنا نجري في الصباح ونعود المساء بعد خروجهم، بعدها استقرّوا في القرية لأيام، ونزح كثيرٌ من الأهالي. أنا وبناتي بقينا في الحوّاشة لأكثر من أسبوعين تحت البرد والبعوض، نأكل العصيدة طوال هذه الفترة. لقد كانت أياماً قاسية».

لقد زُعزِعَ هدوءُ القرية بين ليلة وضحاها، هدوء لم يَلفت يوماً انتباه أحد لأنه الوضع الطبيعي، فقط الحرب أخبرتهم كم كانوا هانئين. وبعد مرور ثلاثة أشهر لم يتبقَّ في القرية سوى ثلاث نساء كبيرات في السنّ لا يَستطعن الحِراك وشابّ واحد يرعاهن. لقد خرَجَ الجميع، وقطعوا مسافاتٍ طويلةً بأرجلهم العارية، حمل كبيرُهم صغيرَهم، ووضعوا العجائز على ظهور الحمير وعربات الكارّو. تُخبر إحدى السيّدات برحلة نزوحهم قائلة: «اضطررنا للعوم عبر الترع، وبتنا أياماً في الطريق حتى وصلنا إلى مكان آمن». ضاع كثيرٌ من الأطفال في هذه الرحلة، واختفت فتيات، وأُصيب آخرون. تصف امرأة المشهد عندما قابلت أختها بعد أن ضلّت إحداهما عن الأخرى: «أول ما شفتها بدينا نبكي، كنا نُعزّي بعضنا كأننا التقينا بعد الموت». لقد خرج الجميع، ولا يعرفون إن كانوا سيلتقون مرة أخرى، لكن لطف الله قدّر ذلك.

بعد انتظار دام نحو تسعة أشهر، اقترب الجيش من القرية، وتناقل الناس أخبار تقدّمه متلهّفين، حتى عادت الأمور إلى نصابها، وبدأ الجميع العودة إلى قريتهم ومنازلهم الخاوية. لكنهم عادوا فارغين إلا من ذكريات عن حياة هادئة كانت هنا، وآمال أقصاها أن تكون أمطار العام مناسبة للزرع وأن لا ينتشر الجراد. الآن، يحلمون بالأمن، الشيء الوحيد الذي لم يخطر في بالهم أن يفقدوه يوماً. لقد كانت الحياة في «مُنى» آمنة بطبيعتها، سهلة وبسيطة. توارث الجميع المحبّة عبر الأجيال القليلة التي عاشت في القرية، توارثوا الأرض عن طيب خاطر، وتوارثت النساء عن الجدّات «حافلات العِدّة» والطِّيبة. لقد سرقت الحرب كلّ ذلك، فكان عاماً قاحلاً وأرضه رمادية، وكسا البيوت خواء مخيف، وهُشّمت الأواني وانقطع إرث الجدّات، وعلى النساء الآن أن يبدأن حياة جديدة تخلو من «صحون البايركس أب وردة»، وليست فيها تلك البروش العتيقة التي توارثها الناس عقوداً، ولا «ريكة الكسرة» التي أكل من على سعفها الآباء والأمهات والأسلاف.

Scroll to Top