
بين رماد الحرب وآمال التعافي، تُحاول مدينة أم روابة التقاط أنفاسها من جديد، بعد أن ذاقت ويلات الفوضى والنهب تحت قبضة قوات الدعم السريع. تنفتح المدينة اليوم على واقع جديد، بعد وصول متحرّك «الصيّاد» التابع للجيش وسيطرته عليها في الثلاثين من يناير الماضي؛ وكان قد انطلق من مدينة تندلتي، ماضياً في إعادة الحياة إلى الطريق القومي الرابط بين مدينتي الأبيّض وكوستي مروراً بأم روابة. قبلها، عاشت مدينة أم روابة تحت وطأة سيطرة الدعم السريع طوال أشهر، منذ دخولها المدينة في أغسطس 2023م.
لكن ما الذي تغيّر في أم روابة بعد هذا التطوّر؟ إلامَ صارت الأوضاع في المدينة بعد رحيل قوات الدعم السريع، التي كانت قد حوَّلت المدينة خلال فترة سيطرتها إلى بؤرة للفوضى والجريمة والانفلات الأمني؟ وهل بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها بعد استعادة الجيش؟
عودة الشرطة والمحاكم
في الأول من فبراير، زار القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان المدينة، بعد يوم من تحريرها. أعقب ذلك وصولُ وزير الداخلية الفريق خليل باشا سايرين في 8 فبراير، لتفقُّد الأوضاع الأمنية وخطوط المواجهة غربيّ المدينة. أما في 12 فبراير، فقد زارها نائب القائد العام الفريق أول ركن شمس الدين كباشي، وتفقَّد متحرّك الصيّاد ووحدات الجيش في المنطقة.
وبحسب المكتب الصحفي للشرطة، فقد بدأت شرطة أم روابة استقبال البلاغات والشكاوى رسمياً، بعد مُباشرتها مهامها منذ اليوم الذي سبقه. وأكّد الرائد إسماعيل إبراهيم، أنّ الشرطة تمكّنت من ضبط عدد من المنهوبات التي خلَّفتها قوات الدعم السريع، بما في ذلك سيارات وأجهزة وأثاثات، داعياً المواطنين لتقديم مستندات تثبت ملكيّتهم لاستلام ممتلكاتهم.
عادت محكمة أم روابة العامة إلى نشاطها من جديد، بعد توقّف دام لعامين منذ 19 أبريل 2023م. وبدأت المحكمة الترتيبات الإدارية الداخلية اللازمة، في وقتٍ تتواصل فيه أعمال الصيانة داخل المجمع لضمان توفير بيئة مناسبة لاستئناف العمل القضائي، كما باشر القضاة وموظفو المحكمة دوامهم، إيذاناً بعودة الحياة إلى أروقة المؤسّسة القضائية في المدينة.
تعمير بعد الخراب
على صعيد الخدمات، شهدت أم روابة تحسّناً ملحوظاً في الاتصالات بعد عودة شبكات الإنترنت والمكالمات للعمل، وذلك عقب صيانة مقارّ الخدمة التي تضرَّرت خلال فترة سيطرة الدعم السريع. كما استعادت المدينة التيار الكهربائي تدريجياً، بعد صيانة محطة كهرباء أم روابة التحويلية التي كان الوصول إليها شبه مستحيل في ظلّ سيطرة الدعم السريع.
وبحسب مصدر في قطاع الكهرباء، تحدث إلى «أتَـر»، فإنّ تغذية المدينة مرتبطة بمحطة أم دَبَاكِر التي تخرج عن الخدمة على نحو متكرّر، ما جعلهم ينظّمون التيار الكهربائي بحسب جدول التوزيع والاستهلاك، لكن بالمجمل فإنّ التيار مستقرّ يومياً لساعات طويلة. وأضاف أن نحو 25 محوّلاً داخلياً كانت قد تعرّضت لأعطال نتيجة نهب زيوتها من قبل عناصر الدعم السريع، وقد جرى إصلاحها بالكامل. وقد انعكس هذا الاستقرار في الكهرباء إيجاباً على المياه، إذ تعتمد المدينة على الآبار الجوفيّة التي تحتاج إلى الطاقة لضخّ المياه، ما أسهم في عودة الخدمة إلى طبيعتها.
وتعرّضت مؤسّسات الخدمة المدنية في أم روابة، خاصّة الواقعة في الجهة الغربية من المدينة، لدمار واسع النطاق خلال فترة سيطرة قوات الدعم السريع. وشملت الأضرار المحكمة، والنيابة العامة، ومبنى المحلية، والسجن، ومقرّ الشرطة، وسجلّ الأراضي، والسجلّ المدني، وغيرها من المرافق الحيوية. وجرى نهب المحتويات، وتخريب البنى التحتية، وتحويل عدد كبير من هذه المباني إلى ثكنات عسكرية ومقار لتمركز قوات الدعم السريع.
«يأتي الموظّفون لتسجيل الحضور، لكنّ المؤسسات قد دُمّرت بالكامل. نجلس تحت الأشجار. لا توجد بنية تحتية، ولا أي إمكانيات لتسيير العمل». وطوال فترة سيطرة الدعم السريع، تحولت المرافق الحكومية، من مراكز تُقدّم الخدمات إلى نقاط تفتيش عسكرية ومعاقل للقوة المُسيطِرة، ما أدّى إلى شلل كامل في أداء الجهاز الإداري والقضائي والأمني في المدينة
تصف إحدى الموظّفات الحكوميات الواقعَ المؤلم بقولها: «يأتي الموظّفون لتسجيل الحضور، لكنّ المؤسسات قد دُمّرت بالكامل. نجلس تحت الأشجار. لا توجد بنية تحتية، ولا أي إمكانيات لتسيير العمل».
وبحسب إفادات عدد من المواطنين لـ «أتَـر»، فإنّ تلك المؤسسات تحوّلت، طوال فترة سيطرة الدعم السريع، من مراكز تُقدّم الخدمات إلى نقاط تفتيش عسكرية ومعاقل للقوة المُسيطِرة، ما أدّى إلى شلل كامل في أداء الجهاز الإداري والقضائي والأمني في المدينة. ولا تزال عملية إعادة تأهيل هذه المرافق تمثّل تحدّياً كبيراً للسلطات المحلية.
ويبذل أبناء المدينة جهوداً ذاتية لترميم الطرق الداخلية، وتشجير المدخل الرئيس للمدينة، فضلاً عن ردم وتسوية المجاري والطرقات لتحسين حركة السير والتنقل.
عودة إلى الحياة
وفي 13 فبراير، انطلقت أولى رحلات العودة الطوعيّة للمواطنين من بورتسودان إلى أم روابة عبر مبادرة كردفان الغرّة، ما يعدُّ مُؤشراً على استعادة الأمن وتوفير الحد الأدنى من الخدمات.
وشهدت مدينة أم روابة في الأحد السادس من أبريل انطلاقة العام الدراسي الجديد بعد توقّف دام عامين. وقرع المدير التنفيذي للمحلية، الأستاذ أحمد عبد الواحد، جرس البداية من مدرسة الجديدة الثانوية بنات ومدرسة خولة بنت الأزور للمرحلتين المتوسطة والابتدائية، بحضور لجنة أمن المحلية وإدارات التعليم. وأكّد عبد الواحد التزامَ الحكومة بدعم التعليم وتحسين بيئة المدارس. وعبّر مدير المرحلة الثانوية، الأستاذ محمود جبريل، عن أمله في عام دراسي مستقرّ ومثمر، مؤكّداً العمل على توفير المعينات اللازمة للمدارس.
ولم يُخفِ عدد من سكّان مدينة أم روابة، في حديثهم لـ «أتَـر»، مشاعر الارتياح بعد استعادة القوات المسلحة السيطرة على المدينة، مُشيرين إلى أنّ حياتهم اليومية بدأت تعود تدريجياً رغم التحديات الكبيرة.
يقول المبارك إبراهيم، أحد سكّان المدينة، في حديثه لـ «أتَـر»، إنّ افتتاح المدارس وتمكّن الناس من الحصول على العلاج والعمل لتأمين لقمة العيش يُعدّ نعمة عظيمة.
بعد أربعة أيام فقط من دخول القوات المسلحة، تمكّنتُ من إدخال شحنة بضائع إلى سوق أم روابة، واليوم تدخل البضائع إلى السوق على الجرّارات
معلّقاً على الأوضاع قبل سيطرة الجيش على المدينة، يقول أكرم وهو أحد مواطني أم روابة في حديثٍ لـ «أتَـر»، إنّ المدينة كانت سجناً كبيراً، طوال فترة سيطرة الدعم السريع، وانعدم الأمان، وكان الناس يعانون في تأمين قُوتهم وشرابهم، مع ذلك، كان هناك تراحُم بين الناس، ويتقاسمون الموجود. ويرى أكرم أنّ الفرق شاسعٌ بين فترتي سيطرة الجيش والدعم السريع؛ إذ تبدو الحياة الآن بالمدينة طبيعية، خاصةً بعد عودة الكهرباء والمياه وتوفر المواصلات. وبدأ السوق يستقبل الآلاف من قاطني قرى أم روابة.
وكانت الدعم السريع قد فرضت جبايات على التجّار والعمّال والمزارعين، هذا فضلاً عن الانتهاكات التي ارتكبتها في حقّ المدنيين.
«البلد يعمّرها أهلها»، بهذه العبارة اختصر التاجر محمد خير رؤيته للمرحلة التي أعقبت تحرير مدينة أم روابة من قبضة قوات الدعم السريع، ومن ثم يضيف في حديثه لـ «أتَـر»: «بعد أربعة أيام فقط من دخول القوات المسلحة، تمكّنتُ من إدخال شحنة بضائع إلى سوق أم روابة، واليوم تدخل البضائع إلى السوق على الجرّارات. كما شهد السوق عودة كبار التجّار ورؤوس الأموال الذين غادروا خلال فترة الفوضى، مثل الدقرشي، وعمر عجبنا، وأولاد أبو قطعة».
ويُشير محمد إلى أنّ فتح الطريق القومي، الذي كان يعجّ سابقاً بأفراد الدعم السريع المعروفين بـ «الشفشافة»، قد أدّى إلى انفراجةٍ في حركة التجارة وأسعار السلع، فقد انخفضت الأسعار على نحوٍ ملحوظ، وبلغ سعر جوال السكر 128 ألف جنيه، والدقيق 44 ألفاً، في حين بلغ سعر رطل البُن 8 آلاف، وكرتونة الشعيرية 20 ألفاً، وكرتونة الصابون 27 ألف جنيه.
تحدّيات صحّية
واستأنف المستشفى المرجعي الوحيد في المدينة نشاطه تدريجياً عقب استعادة الجيش سيطرته على المدينة، لكنّ مصدراً طبياً من داخل المستشفى تحدث لـ «أتَـر»، قائلاً إنّ «الوضع الصحي جيد نوعاً ما، لكن التحديات والمعوقات كتيرة جداً».
من أبرز هذه التحدّيات النقص الحادّ في الكوادر الطبية، وخاصة الأطباء، بسبب تدنّي الأجور وغياب الحوافز المُجزية، ما أدّى إلى اعتماد المستشفى كلياً على الأطباء العموميين دون الاختصاصيين.
كما يُعاني المستشفى من قلّة الأسرَّة وعدم جاهزية غرف التنويم، إضافة إلى تردّي البنية التحتية، فالمراوح غير كافية، وتفتقر دورات المياه إلى الصيانة. وأشار المصدر إلى أنّ مشكلة الكهرباء تمثّل تحدياً كبيراً، فالمستشفى يعتمد بالكامل على الشبكة العامة التي تعاني من انقطاعات متكرّرة، ولا يجري تشغيل المولّد الاحتياطي الذي يعمل بالبنزين، إلا في الحالات الطارئة والعمليات، بسبب استهلاكه العالي للوقود.
وأكّد المصدر أنّ المستشفى في حاجةٍ ماسّةٍ إلى نظام طاقة شمسيّة خاصة في قسم الطوارئ العامة وقسم النساء والتوليد، لضمان استمرار تقديم الخدمات في ظل انقطاع الكهرباء.
ومع دخول الجيش إلى أم روابة، رافقت متحرّك «الصياد» قافلةٌ طبيةٌ ضخمةٌ ساعدت على إعادة تشغيل المستشفى، وقدّمت خدمات طبيّة شملت المقابلات والاستشارات والفحوصات والعلاجات وعمليات صغرى دون مقابل.
أما عن المعدّات الطبية، فقد أوضح المصدر أن قدراً كبيراً منها قد جرى نهبه أو تدميره خلال فترة سيطرة الدعم السريع، لكن تمكّنت إدارة المستشفى من استرجاع كثير منها، مضيفاً أنّ وفداً من وزارة الصحة زار المستشفى أخيراً ووقف على ما يَلزم توفيره، إلا أنّ استكمال الترميم والدعم يسير ببطء.
العمل الطوعي يستعيد عافيته
متحدّثاً لـ «أتَـر»، يقول نبيل قمبو، أحد المتطوّعين في غرفة طوارئ أم روابة، إنّ العمل الطوعي شهد تحوّلاً كبيراً بعد تحرير المدينة من قبضة قوات الدعم السريع. ويُخبر قمبو أنهم نفّذوا مشروع المطبخ المركزي خلال شهر رمضان، بدعم من منظمة صدقات، وهو مشروع استهدف توفير إفطارات رمضانية يومية لـ 13 مركزاً بمعدل 6,000 فرد، في ظل ظروف بالغة التعقيد.
وكان العمل الطوعي خلال فترة سيطرة الدعم السريع، يُواجه عراقيل كبيرة، أولها انعدام الأمن، فضلاً عن انقطاع شبكات الاتصال على نحو دائم، خاصة أنّ تمويل المساعدات يُجلب من الخارج.
أما بعد استعادة المدينة إلى سيطرة الجيش، يؤكّد قمبو أن بعض المنظمات الإنسانية بدأت أعمالها، ما أدّى إلى تذليل كثير من التحدّيات، خصوصاً في ما يخصّ الدعم.
ويأمل قمبو تسجيل المنظّمات الطوعية في المدينة رسمياً، لتيسير التنسيق مع الجهات المعنية، لافتاً إلى أنهم ما زالوا يعملون حالياً ضمن مبادرات فردية ومتطوّعين على نحوٍ غير رسمي.
ويرى أن إعادة إعمار أم روابة تحتاج إلى تضافر الجهود، الرسمية والشعبية، ووجود المتطوّعين سيكون عاملاً مسانداً أساسياً في بناء المدينة من جديد.
وبينما لا تزال التحدّيات قائمة في قطاعات الصحة والبنية التحتية في أم روابة، يُعبّر المواطنون عن تفاؤلهم بمستقبل أفضل، يعلو فيه صوت الاستقرار على ضجيج الرعب، وتُكتب فيه فصول جديدة من التعافي في قلب كردفان.