
«أعرفي مقام نفسِك براك
ما تسألي الزول المعاك
…
تباشي كلبة ميتة
كلبة ميتة، كلبة ميتة
جنوبيين نار الضَّلِع
علي تباشي في الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
بِسْ!
حميدتي نار الضَّلِع!
الساكن جبرة نار الضَّلِع!
في المخدّة».
من أغنية «نار الضَّلِع» للفنانة مروة الدولية.
ما هي إذَن الطبقة الاجتماعيّة التي شهد الدكتور عبده سيمون، الأنثربولوجي الأميركي المسلم، على موقعها «البرَّاني» في اقتصاد «المُجامَلة» الخرطومي، والتي عرَض وسائلَ بقائها في كُونِكا مايو، معاشاً ومعنىً، وأملاً في هدمٍ عظيمٍ تتحرَّر به من هذا الجحيم؟ وهل هي الطبقة الاجتماعيّة ذاتها التي احترز منها الدكتور حسن مكي وحذَّر، وقال إنها صارت رهناً للكنيسة العالمية ومَطيَّةً لصليبيِّين جُدد، ظاهرُ شُغلِهم التعليمُ وأوجُهٌ أخرى للعون الإنساني، وباطنُه الفتنة؟ ثم رشَّح الدِّينَ القويمَ وسيلةً لتحييد هذا الخطر المحيط. وهل هي ذاتها الطبقة الاجتماعية التي اكتَشَف طرَفاً منها الدكتور محمد بخيت في «كرتون كسلا» وفرَزَها من فائزين في جوارها الاجتماعيّ دخلوا السُّوقْ «قدِّر ظروفك»، بينما ظلَّت عناصرها «عُصبجيَّة» و«شمَّاشة» خارج الدوائر التبادليّة لهذا الجوار، سِكَّتُهم السَّلب بقوّة، أو الشَّلِب بحَرْفَنة، ما استطاعوا إليه سبيلا؟
تقترب القارئةُ من هذه الطبقة الاجتماعية، وقد تتساءل إنْ كانت هي تلك التي شغَلت الدكتور عبده مالك سيمون والدكتور حسن مكي والدكتور محمد بخيت، كلٌّ من موقعه. الأوّل بوصفه أنثربولوجياً مُسلماً، جاء به دربُ النُّصرة إلى خرطوم التسعينيات، ليُسعف الحركة الإسلامية السودانية وهي تحاول، كيفما اتّفق، أن تصنع طريقاً جديداً بالمشي في هامشٍ كونيٍّ، والمحاذيرُ الإمبرياليّة تحيط بها، والمخاطر، ولم يعد هنالك اتّحاد سوڤييتي يعاند لمصلحة للجنوب الكونيّ في مقابل المركز الأمريكي المنتصر. والثاني بوصفه كادراً في هذه الحركة، يريدُ أن يَنفُذَ إلى هذه المخاطر بعِلْم محلّيٍّ يُرشِد به السُّلطانَ الجديدَ إلى مواقع الحذر. والثالث بوصفه عالمَ إثنوغرافيا، يُريد أن يَستخرج من فسيفساء الإثنيّات والثقافات والأديان عِلماً بالهامش داخل المدينة في زمانٍ واعدٍ بالسّلام.
تجد القارئةُ، عند هذا الاقتراب، رايةً قديمةً غرَسها المرحوم كارل ماركس في موقعٍ اجتماعيٍّ شبيهٍ ضمن كَدِّه في القرن التاسع عشر؛ راية عليها حصيلةُ ما استفاده من تجربة ثورات 1848 الأوروبيّة مناضلاً من أجل الديمقراطية ومحرّراً لجريدةٍ مقاتلة، «جريدة الراين الجديدة» التي أعلنَت عن نفسها بديباجةٍ «لسان حال الديمقراطية» مهمّتها تثقيف الثورة. وكانت جريدة المرحوم جريدة يوميّة صدرت من كولون الألمانية بأفق أوروبيّ من 1 يونيو 1848 حتى 19 مايو 1849 حين سطَت عليها السُّلطات وطرَدت محرِّرَها المرحوم ماركس الطَّردةَ التي انتهت به لاجئاً دائماً، حتى قضى في كرسيِّهِ وقد انشغل أهلُ بيته عنه بالوَنَسة في الحديقة؛ لاجئاً «بِدُونْ»، بعدما نزعت السُّلطات الألمانية أوراقه الثبوتية. قال الرقيب البوليسيّ في قرار منع صدور جريدة المرحوم: «تعاظَمَ مَيلُ «جريدة الراين الجديدة» في أعدادها الأخيرة إلى استفزاز القرّاء لاحتقار الحكومة القائمة، وتحريضهم على الثّورة العنيفة وإقامة جمهورية اجتماعيّة… وبذلك قُرِّر إلغاء حقّ الضّيافة الذي طالما أساء استغلالَه محرِّرُها الدكتور ماركس بكلِّ وقاحة. ولمّا لم يتقدَّم الأخيرُ بطلبٍ للسّلطات لتمديد إقامته في هذه الأقاليم، فقد صَدَر الأمر بأن يغادرها خلال 24 ساعة. وإنْ لم ينفِّذ هذا الأمر طوعاً فسيجري إبعادُه قسراً عبر الحدود». صار الدكتور ماركس، محرِّر الجريدة، بهذه النفي «كارل ماركس»، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
التقى المرحوم ماركس هذه الطبقة في أُوَار ثورات 1848، ونفَى عنها في «المانفستو الشيوعي» كلَّ سَمْتٍ ثوريٍّ إلا انتداباً. و «المانفستو الشيوعي» في نشأتِه هو خلاصةُ ما أصاب ماركس، وصَفِيُّه فردريك إنجلز، وزوجتُه جني ماركس، من علم الصراع الاجتماعي، من وحي الثورة والثورة المضادّة في 1848، وكتبَه ثلاثتُهم في ديسمبر 1847/ يناير 1848. بل أبَّدَ ماركس سوءَ الظنّ بهذه الطبقة بقلمه الحادّ، فهي عنده «البروليتاريا الرثّة، الحثالة المتعفّنة المستسلمة لمصيرها، المنحدرة من أكثر طبقات المجتمع القديم وضاعةً، فهي قد تنجرُّ إلى الحركة وراء ثورةٍ بروليتاريّة؛ إلا أنّ ظروف حياتها تجعلها أكثر استعداداً لبيع نفسها خدمةً للمناورات الرجعيّة» (كارل ماركس وفردريك إنجلز، «مانفستو الحزب الشيوعي»، ضمن «أعمال كارل ماركس وفردريك إنجلز»، مجلّد 4، دار نشر كارل ديتز، برلين، 1977، ص 472).
لم يتوسَّع المرحوم كارل ماركس في المانفستو الشيوعي لشرح سوء الظنّ العظيم هذا. لكنه نَجَدَ القارئةَ في «صراع الطبقات في فرنسا 1848-1850»، وهو بعضُ شغله من العام 1850 الذي نضجت فيه «المادّيّة التاريخيّة» إذا صحّ التعبير، بتفسيرٍ من التجربة لحُكمِه الغليظ. كتَبَ عن البروليتاريا الرثّة أنها «كَوَّنت في المدن الكبرى كتلةً متمايزةً للغاية عن البروليتاريا الصناعيّة، ومورداً لتجنيد اللصوص والمجرمين من جميع الأنواع، ممن يعيشون على فتات المجتمع. أناسٌ دون مهنة محدّدة، مشرّدون، أناسٌ دون سكنى أو مأوى، ويتفاتون حسب درجة تحضُّر الأمّة التي ينتمون إليها، لكن لا يتخلّون أبداً عن طابع الصّعلقة الرّثّ». والمرحوم كارل ماركس لا يتجنَّب التاريخ متى وَقَع، لذا شَهِد لبعض شباب البروليتاريا الرثّة من جهةٍ بالبسالة النادرة و«أشدّ الأعمال بطولةً وأكثر التضحيات سُموّاً»؛ ومن جهةٍ أخرى بـ «أحطَّ لصوصيّةٍ وأقذر فساد».
وحساب المرحوم كارل ماركس مع هؤلاء، أنّ الحكومة المؤقّتة في فرنسا، والتي قامت بفضل ثورة فبراير 1848، أمّ الثورات الأوروبية، والتي نشأت بها الجمهورية الفرنسية الثانية، قد جنَّدت البروليتاريا الرثّة في وحداتٍ سريعةِ الحركة باسم «الحرس المتنقّل» لدعم «الحرس الوطني» في قمع البروليتاريا الباريسية التي شاركت البرجوازيّة في الثورة، ثمّ انقلبت البرجوازية عليها وقت استقلَّت بمطالبها. وكتب المرحوم ماركس، شاهداً متدبِّراً على العصر، أنَّ الحكومة الانتقاليّة جنَّدت عناصر البروليتاريا الرثّة في وحدات، تضمّ كلٌّ منها ألفَ شابٍّ مقاتل في عمر الخامسة عشرة إلى العشرين، بأجر فرنك واحد وخمسين سنتيماً في اليوم. ثمّ توسَّع عددُهم حتى بلغ أربعة وعشرين ألفاً، وكسَتْهم بزيّ خاصّ يُميِّزهم عن العمّال ذوي القمصان الزرقاء، وجعلت على رأس كلّ وحدةٍ منهم ضابطاً نظاميّاً من صفّ البرجوازية، وأنها خلَبَت ألباب هؤلاء الجنود اليافعين بنجوى الفداء من أجل القضية؛ قضية «الجمهورية».
وأهمّ نظرات المرحوم ماركس في مسألة «الحرس المتنقِّل» أنَّ البروليتاريا الباريسية واجهت في جنود «الحرس المتنقِّل» جيشاً من داخل صَفِّها و«من رَحِمها» بعبارة رائجة، رجال أشدّاء لكنهم «طُرُش». وهلَّلت البروليتاريا الباريسية أوّل الأمر لهذا الصفّ القتالي، لجند «الحرس المتنقّل»، لسرعتهم في الدعم وهم يعبرون شوارع باريس في خيلاء. وقال ظنَّت فيهم البروليتاريا الباريسيةُ الوفاءَ، واحتفت بهم كأولادها جاءوا مسلَّحين لحراسة متاريس الثورة، واعتبرتهم الحرسَ البروليتاري، في مقابل الحرس الوطني البرجوازي. وقال المرحوم ماركس في عبارةٍ صَمَدَت رنّانةً في عقل كلّ قارئةٍ حصيفةٍ حتى اليوم: «كان خطأً مغتفراً» (كارل ماركس، «صراع الطبقات في فرنسا 1848 – 1850»، ضمن «أعمال كارل ماركس وفردريك إنجلز»، مجلد 7، دار نشر كارل ديتز، برلين، 1960، ص 26). فلمّا أجاز لهم المرحوم ماركس الغفرانَ مؤرِّخاً، وقد كال لهم السُّبابَ مناضلاً، فموقعُهم كان بعبارته ألعوبةً في يد البرجوازية التي فَتَنَت بين فئات البروليتاريا، فجنَّدَت الرثَّ منها لقمع المُنتِج.
يُتبع