أتر

معسكر زمزم في قبضة الفوضى: أكثر من 100 قتيل بعد هجوم الدعم السريع على مأوى النازحين الأكبر بالبلاد

في تطوُّرٍ خطيرٍ يوم أمس الأحد 13 أبريل، وفي حوالي الساعة 12 ظهراً بتوقيت السودان، وقع معسكر زمزم للنازحين تحت سيطرة قوات الدعم السريع والمليشيات المُتحالِفة معها، عقب موجاتٍ عنيفة من القصف المدفعي الكثيف وإطلاق النار المتواصل الذي استمرّ أياماً، ما أدَّى إلى تشتُّت سكّان المعسكر وفرار غالبيتهم نحو مدينة الفاشر. ومع انسحاب القوّات الشعبية الموجودة في مُحيط المعسكر الواقع جنوب الفاشر على بعد حوالي عشرة كيلومترات، اجتاحته قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها. ووردت تقاريرُ عن عمليات نهب واسعة، وجرائم قتل واختطاف طالت المدنيّين الذين لم يتمكّنوا من الفرار. هذا بحسب ما وَرَد من مرصد شمال دارفور لحقوق الإنسان.

وكشفت مصادر ميدانية في الفاشر لـ «أتَـر»، عن نزوح آلاف المدنيّين من مدينة الفاشر ومعسكر زمزم إلى منطقة «طويلة» غرب الفاشر، وتبعد عنها حوالي 50 كيلومتراً، وذلك في أعقاب الهجمات التي شنّتها قوات الدعم السريع. وأكّدت المصادر أنّ معسكر زمزم كان به عدد ضئيل من القوات المشتركة أثناء اجتياح قوات الدعم السريع، التي دخلت بحوالي 300 عربة قتالية، تحمل مختلِف أنواع الأسلحة. وأوضحت المصادر صعوبة تقديم إحصائية دقيقة بأعداد القتلى والجرحى نتيجة للظروف الأمنية المعقّدة.

وشهدت مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، خلال الأيام القليلة الماضية، تصاعداً خطيراً في وتيرة العنف. بدأت الأحداث يوم الخميس 11 أبريل. واهتزّ معسكر زمزم جراء تجدُّد القصف، الذي أسفر عن سقوط قتلى وجرحى من المدنيّين، بينهم أطفال ونساء، ما بثّ حالة من الذعر بين السكّان الذين يعانون بالفعل من حصار ونقص حادّ في الاحتياجات الأساسية.

نازحون من معسكر زمزم إلى طويلة

تصوير: مروان عبدالله

واعتبر مختبر البحث الإنساني، التابع لكلّية الصحّة العامة بجامعة يال، أنّ هجوم قوات الدعم السريع على معسكر زمزم للنازحين، مساء 11 أبريل وصباح 12 أبريل، هو الأخطر منذ اندلاع الحرب. وحسب المختبر، فإنّ أكثر من مائة شخص لقوا مصرعهم، وسط إعدامات ميدانية لفرق الإسعاف.

يُظهر الڤيديو المُتداول على نطاق واسع، عربات عسكرية تابعة لقوات الدعم السريع تقترب من المعسكر من نقطة الدخول الشرقية. وتَظهر الأضرار في الأجزاء الجنوبية والشرقية والوسطى من المخيم. وتأكد المختبر من «سقوط ضحايا مدنيين».

معسكر زمزم قبل الهجوم
معسكر زمزم بعد الهجوم

صور من الأقمار الصناعية تظهر الدمار الذي حلّ بمعسكر زمزم

وفي يوم الجمعة 12 أبريل، واصلت قوّات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها قصفها المدفعي العنيف والمكثّف على معسكر أبو شوك، في هجومٍ وُصِف بأنّه الأعنف منذ بداية الحرب على المدينة. وأفادت تقارير أوليّة عن مقتل أكثر من 40 مدنياً وإصابة المئات، وسط نقص حادّ في الكوادر والمستلزمات الطبية واستمرار القصف.

أصدرت منظمة ريليف الدولية بياناً عن مقتل تسعة من كوادرها، منهم كوادر طبية، داخل المعسكر، على أيدي قوات الدعم السريع. ووصف البيانُ هذا الهجومَ بأنه كان يستهدف «جميع البنى التحتية الصحّية في المنطقة لمنع وصول النازحين إلى الرعاية الصحية. ونُعرب عن صدمتنا من أنّ عيادتنا، وهي المنفذ الوحيد المتبقّي للرعاية الصحية في مخيم زمزم، كانت أيضاً جزءاً من هذا الهجوم – إلى جانب مرافق صحية أخرى في الفاشر».

ووثّقت فرق الرصد الميدانية في مرصد شمال دارفور، عمليات نهب واسعة للممتلكات ووقوع جرائم قتل واختطاف طالت المدنيّين الذين لم يتمكّنوا من الفرار، ولم يتسنَّ لها الحصر الدقيق نتيجة الظروف المعقدة. كما وثّق أحد الراصدين  مقتل 14 امرأة بعد ربطهنّ بالثياب وإحراقهنّ بالكامل بحي أم هشاب بالمعسكر. وجرى التعرُّف على اثنتين من الضحايا (خديجة إسماعيل، فاطمة محمد حامد)، بينما لم يجرِ التعرُّف على هويات الأخريات. وأدان مرصد شمال دارفور لحقوق الإنسان بشدّة هذه الجريمة، مُحمِّلاً الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها كامل المسؤولية عما جرى ويجري في معسكر زمزم حتى الآن، ووصف ما يحدث بأنه جريمة ضد الإنسانية يصعب تصوّرها.

ومع توقف إسقاط طيران الجيش السوداني للإغاثة الجوية بسبب مضادات الدعم السريع الأرضية، ناشد حاكم الإقليم مناوي المنظمات بالإسراع في إسقاط المساعدات، مشدّداً «على أن هذه مسؤولية دولية أكثر مما تكون مسؤولية الحكومة».

قتلى واعتقالات وتصفيات

من جانبه، صرّح آدم رجال، الناطق باسم تنسيقية النازحين واللاجئين، لـ «أتَـر»، مُعرباً عن قلقه البالغ إزاء التدهور الكارثي للأوضاع الإنسانية في مدينة الفاشر، مُحمِّلاً أطراف الصراع مسؤولية وصول البلاد إلى هذه المرحلة «المريرة والحرجة». وقال إنّ القصف المتكرّر على معسكر زمزم للنازحين، أفضى إلى خسائر فادحة ونزوح قسري للسكّان، كما وجّه اتهامات للقوات المشتركة باستغلال «وضعية النازحين واستخدامهم دروعاً بشريةً»، بوضعهم ارتكازات داخل المعسكرات، الأمر الذي عرّض حياة النازحين لخطر الموت داخلها. وأشار المتحدّث إلى أن سقوط معسكر زمزم قد وضَعَ النازحين في «وضع بالغ الخطورة»، وأوضح أنّ القوات المشتركة أخرجت النازحين من المعسكر إلى مناطق أخرى، لكنه أكّد «انسحاب المشتركة» لاحقاً، ما ترك النازحين في «خطر عدم الأمان» وعرضةً للتهديدات.

لم يكن معسكر زمزم مجرد مساحة جغرافية تحتضن الآلاف من النازحين الفارّين من جحيم الحرب، إنما كان وطناً مؤقتاً صنعوه من الصبر، والمشاركة، والأمل. كان زمزم ملاذاً يحتمي فيه الضعفاء، وملجأ لمن فقدوا كل شيء

وفي سياق متصل، وصف رئيس منظمة «مشاد»، أحمد عبد الله، الأوضاعَ الإنسانية بأنها بالغة الخطورة بعد الهجوم على معسكر زمزم، مشيراً إلى أنّ حصيلة الانتهاكات بلغت 382 ضحية، بينهم 29 طفلاً، إضافة إلى تهجير جميع النازحين في المعسكر، بعضٌ منهم إلى وجهة غير معلومة وبعضٌ منهم إلى طويلة وكورما، وفرار أعداد كبيرة من الجرحى إلى مناطق نائية وما جاورها دون علاج. وناشد عبد الله عبر «أتَـر»، الهلال الأحمر والصليب الأحمر وبقية المنظّمات الفاعلة، بالتحرّك العاجل لتقديم المساعدة والإغاثة، وحذّر من وضع كارثيّ يشمل اعتقال أكثر من 1200 مدني تحت قبضة قوات الدعم السريع، مع وجود تقارير عن عمليات تصفية. وشدّد على الحاجة إلى تدخل عاجل لإنقاذ ما تبقى من المدنيين، مؤكّداً أن الانتهاكات ما زالت مستمرة في داخل محلية «أم كدَّادة» التابعة لشمال دارفور، وتتضمّن عمليات تصفية، ما يُهدّد حياة العديد من المدنيين الذين يعيشون أوضاعاً إنسانية مأساوية، بينما يزداد الوضع تعقيداً بالنسبة للنازحين في طويلة جرّاء استمرار المعارك.

معسكر زمزم بين حربين

نازحون من معسكر زمزم إلى طويلة

تصوير: مروان عبدالله

يضمّ معسكر زمزم للنازحين نحو نصف مليون نازح، ويعود تأسيسه إلى العام 2004، عقب نشوب النزاع في إقليم دارفور الذي عانى من الحروب لفترات طويلة. ومن جراء الحرب الحالية المندلعة في البلاد، نزَح معظم سكّان الفاشر إلى المعسكرات والمناطق القريبة الأكثر أمناً. ويُعاني النازحون في زمزم من أوضاع إنسانية بالغة التعقيد؛ وبحسب تقديرات حديثة، وصل عددهم إلى نحو مليوني نازح، ما شكّل ضغطاً هائلاً على البنية التحتية والخدمات الإنسانية المحدودة في المعسكر. وفي ظل شحّ الغذاء وانعدام المياه والخدمات الطبية، عاش سكّان زمزم أوضاعاً وُصِفَت بأنها وصلت مرحلة المجاعة، وسط تحذيرات منظّمات دولية من كارثة إنسانية وشيكة، كان يمكن تجنُّبها إذا ما توفر الدعم والاستجابة الدولية السريعة. المعسكر الذي كان يأوي في البداية نازحي حرب دارفور 2003، أصبح اليوم ملاذاً جديداً لعائلات فرّت من جحيم النزاع الأخير منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023. وفي أغسطس 2024، أصبح زمزم أول منطقة في البلاد تُعلِن رسمياً عن المجاعة.

لم يكن معسكر زمزم مجرد مساحة جغرافية تحتضن الآلاف من النازحين الفارّين من جحيم الحرب، إنما كان وطناً مؤقتاً صنعوه من الصبر، والمشاركة، والأمل. كان زمزم ملاذاً يحتمي فيه الضعفاء، وملجأ لمن فقدوا كل شيء.

في الهجوم العنيف الذي شنَّته قوات الدعم السريع، لم يقتصر الاستهداف على البنية المؤقّتة للمعسكر، إنما استُهدفت أيضاً إنسانية الناس فيه. قُصِف المعسكر بمختلف أنواع الأسلحة، وتحوّلت الخيام إلى رماد، والملاجئ إلى قبور جماعيّة، وساحات اللعب إلى ميادين موت. في زمزم، كانت الأرواح تحتمي من رعب الحرب، لكنها الآن تواجه الموت وجهاً لوجه. كان الصوت الوحيد الذي يعلو على القذائف هو صراخ الأمهات، ونداء الجرحى، وأنين الأطفال.

Scroll to Top