
في بهو رماديّ تابع لسفارة السودان بطرابلس، تجمّع عشرات السودانيين حول هواتفهم المحمولة، نهاية مارس الماضي، كأنهم يحتمون بها من هشاشة الواقع. يتبادلون الصور والتعليمات عبر «واتساب»، وهم يملأون الاستمارة التي قد تعيدهم إلى بلاد خرجوا منها ذات صيفٍ دمويّ. فالسفارة، أخيراً، أعلنت عن فتح الباب للتقديم لبرنامج «العودة الطوعية».
تتضمّن الاستمارة معلومات مثل الاسم الكامل لمن يرغب في العودة، وصورة جوازه، أو رقمه الوطني، ومكان الإقامة في ليبيا، والعنوان في السودان، دون تعهّدات بالحماية، ولا برامج إعادة دمج، لا وعد بإعادة بناء حياة مهدّمة.
«هل نعود إلى ما تبقّى؟»، يتساءل أحمد، شابّ ثلاثيني من مدينة عطبرة، جاء إلى ليبيا قبل عام عبر طرق التهريب، باحثاً عن شيء لم يجده. يقول لمراسل «أتَـر» إنّ ليبيا لم تكن ملاذاً، لكنها فرصة هروب، ويضيف بصوت متعب: «أنا أعود اليوم لا لأن الوطن صار أكثر أمناً، بل لأنني سئمتُ من التشرّد. حتى العودة تحتاج إلى واسطة، وإلى صبر، وإلى قدرة على تحمّل العودة بلا شيء سوى الحنين».
بالنسبة لكثيرين، لم تكن طرابلس يوماً قريبة، لا من حيث الجغرافيا ولا السياسة. المدينة التي أُعلنت منها «العودة»، تقع وسط متاهة من الحواجز الأمنية والولاءات لمختلف المليشيات والتحالفات القبّلية. والطريق إليها من مختلف المدن الليبية، ليس محض مسافة، بل اختبار لليونة الروح وقسوة الواقع
ربيعة هارون أرملة وأمّ لأربعة، من الخرطوم، أمضت يوماً بأكمله على الطريق في محاولة للوصول من بنغازي إلى طرابلس، حاملةً أطفالها وأحزانها في قلبٍ واحد. «نقاط التفتيش كثيرة، ولكلّ واحدة قصة. كل مسافة تقطعها تدفع فيها رسوماً بصَمْت، كأنك تشتري بعض الأمان المؤقّت». وقالت ربيعة إنّ الوصول من بنغازي إلى طرابلس كلّفها 3 آلاف دينار ليبي (الدولار الأمريكي الواحد يساوي 5.46 دينار ليبي بالسعر الرسمي).
بالنسبة لكثيرين، لم تكن طرابلس يوماً قريبة، لا من حيث الجغرافيا ولا السياسة. المدينة التي أُعلنت منها «العودة»، تقع وسط متاهة من الحواجز الأمنية والولاءات لمختلف المليشيات والتحالفات القبّلية. والطريق إليها من مختلف المدن الليبية، ليس محض مسافة، بل اختبار لليونة الروح وقسوة الواقع.
عبد الله، شابّ آخر قَدِم من بنغازي إلى طرابلس، وصَف رحلته نحو السفارة بأنها سلسلة من التنازلات: «تحرّكتُ على ثلاث مراحل. كلّ محطة تحتاج إذناً، وكل إذن له ثمن. حتى الطريق إلى الوطن ليس لك، بل لأمزجة الآخرين».
أما داخل السفارة، فقد حاول مسؤول رفيع – فضّل عدم الكشف عن اسمه – أن يخفّف من وطأة المشهد، فقال لـ «أتَـر» إنّ الخطوة تأتي استجابةً لحاجة إنسانية ملحّة، وليست حملة سياسية. وأضاف أنهم يدركون حجم المعاناة. «نعلم أن العودة ليست سهلة، لكنها أصبحت ضرورة لكثيرين فقدوا القدرة على الاستمرار هنا. ننسّق مع الجهات الليبية والدولية لتوفير ممرّات آمنة، وسنعمل على أن تكون العودة كريمة بقدر الإمكان»، لكنه يعترف، بأنّ الإمكانات محدودة والوعود أكثر هشاشةً من الواقع، «فالعقبات اللوجستية والأمنية، وحتى المالية، كبيرة جداً، لكننا نحاول».
وفقاً لتصريحات المسؤول في السفارة، كان هناك حوالي 2000 طلب رسمي من مواطنين سودانيين قدموا إلى ليبيا، وأوضاعهم غير قانونية، ويرغبون في العودة الطوعية إلى بلادهم. وجرى تنفيذ عدة رحلات لإعادة هؤلاء المواطنين بالتنسيق بين السفارة السودانية في طرابلس والمنظمة الدولية للهجرة.
زادت مشاعر الامتعاض بعد إعلان السفارة السودانية، الأحد، عن «خطأ غير مقصود» في تحديد رسوم وثيقة السفر الاضطرارية. الوثيقة التي تشكّل المعبر الرمزي إلى ما تبقّى من الوطن، أُعلنت رسومها بداية بـ 420 ديناراً ليبياً، ثم صُحَّحت إلى 140 ديناراً. لكن الاعتذار الرسمي لم يُخْفِ الشعور بالغضب الذي يعتمل في صدور اللاجئين السودانيين، ممن وجدوا أنفسهم عالقين بين بيروقراطية السفارات وتضاريس المنفى القاسية
تلك العبارة – «العودة الطوعية» – التي تُصاغ عادةً في أدبيات المنظّمات، تبدو اليوم مجازاً غامضاً لا يعكس الحقيقة. فحين لا يعود أمام اللاجئ سوى الرحيل، لا تعود الطواعية خياراً، بل ضرورة. ليست العودة إعادة اندماج، بل هبوط اضطراري، كما وصفتها باحثة الهجرة في مكاتب مفوضية العون الإنساني بطرابلس د. حنان فرج لـ «أتَـر»: «عودة السودانيين من ليبيا اليوم لا تشبه أي موجة سابقة. إنها ليست بداية جديدة، بل نزول اضطراري في وطنٍ لم يتعافَ بعد من الحريق».
وبحسب حنان، تُساهم السُّلطات الليبية في برنامج العودة الطوعية للمهاجرين السودانيين. وتتعاون الحكومة الليبية مع منظمّات دولية مثل المنظمة الدولية للهجرة (IOM) والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) لتسهيل عمليات العودة الطوعية. فاللاجئون لا يعودون كما خرجوا. كلّ واحد منهم يحمل في قلبه نسخةً مهترئة من وطن، وفي حقيبته القليلة، بعض الملابس، وكثيرٌ من الألم.
زادت مشاعر الامتعاض بعد إعلان السفارة السودانية، الأحد، عن «خطأ غير مقصود» في تحديد رسوم وثيقة السفر الاضطرارية. الوثيقة التي تشكّل المعبر الرمزي إلى ما تبقّى من الوطن، أُعلنت رسومها بداية بـ 420 ديناراً ليبياً، ثم صُحَّحت إلى 140 ديناراً. لكن الاعتذار الرسمي لم يُخْفِ الشعور بالغضب الذي يعتمل في صدور اللاجئين السودانيين، ممن وجدوا أنفسهم عالقين بين بيروقراطية السفارات وتضاريس المنفى القاسية.
مأمون أحمد، أنفق جميع مدخراته في الطريق من بنغازي إلى طرابلس يقول: لا تُقاس الرسوم بالأرقام، بل بالخذلان. «إنها ليست محض رسوم لوثيقة سفر، بل ثمن يُدفع جراء الغربة. مرآة لتشظّي الهوية حين تُترجَم المواطنة إلى رقم في كشف حساب السفارات».
على الضفّة الأخرى من المعاناة، تتعالى أصوات ليبية غاضبة من تنامي أعداد المهاجرين، في وقتٍ تعاني فيه البلاد من انهيار اقتصادي واسع. تُطلِق بعض الجهات دعوات لمراقبة تحرّكات المهاجرين، وسط شعور عام بأن الوجود الأجنبي يزيد من عبءٍ لا تحتمله البنية التحتية المتهالكة.
وعلى منصّات التواصل الاجتماعي، تنفجر هذه المشاعر المتضادّة. سخطٌ ليبي يتقاطع بيأس سوداني، في مشهد يختلط فيه الإحباط بالقلق والمجهول. تبرز الاتهامات، وتنحسر المحاولات لفهم الآخر، ليبقى الجميع عالقاً في سؤال بسيط، ومؤلم: «أين المخرج؟».
في شمال السودان، وتحديداً في مدينتي مرَوي وعطبرة، تتحرَّك الأيام على وقع الخوف والاحتمال. كانتا في السابق تُعَدان ملاذاً بعيداً عن مركز العاصفة، أما اليوم، فهما عنوان لقلق جديد يتمدّد، وصدى لتهديدات لم تعد بعيدة المنال.
في كثير من جوانبه، يبدو برنامج «العودة الطوعية» غير متّسق مع الحقيقة اليومية للناس. فالدولة غائبة، والمجتمع الدولي يراوح مكانه، بينما الحرب تأخذ شكلاً متحوّلاً يتسلّل إلى مناطق جديدة. عودة كهذه قد لا تعني إلا دائرة جديدة من النزوح، أو حياة في الظلّ على هامش المدن المتعبة.
مع تصاعد التوترات وتحرّكات قوات الدعم السريع في محيط هذه المناطق، باتت فكرة «العودة الطوعية» التي تُروِّج لها بعض الجهات الرسمية والدولية، محاطةً بالأسئلة أكثر من الإجابات؛ فالمدنيّون الذين أُجبروا على النزوح والشتات يحلمون بالعودة، لكن هذا الحلم يُواجه واقعاً هشّاً لا يقدّم ضمانات. في مرَوي، التوجّس واضح؛ إشاعات عن اشتباكات، وتحرّكات عسكرية غير مألوفة، بينما في عطبرة، التي احتضنت آلاف الفارّين من الخرطوم، يخيّم الصمت الثقيل في انتظار ما لا يُعرف. ليس التهديد في الرصاص فقط، إنما في الغياب التامّ لأي بنية تضمن الحدّ الأدنى من الاستقرار أيضاً.
وفي كثير من جوانبه، يبدو برنامج «العودة الطوعية» غير متّسق مع الحقيقة اليومية للناس. فالدولة غائبة، والمجتمع الدولي يراوح مكانه، بينما الحرب تأخذ شكلاً متحوّلاً يتسلّل إلى مناطق جديدة. عودة كهذه قد لا تعني إلا دائرة جديدة من النزوح، أو حياة في الظلّ على هامش المدن المتعبة.
في النهاية، لا تُقاس العودة إلى الوطن بإطفاء المحرقة في القلب فقط، بل أيضاً بوجود بيت له باب يُغلق، ومدرسة لها سقف لا يسقط، وشارع يمكن عبوره دون خوف. وحتى الآن، لا شيء من هذا متاح.