
بدأ محمد الهادي بشرى، وهو شابّ في الرابعة والثلاثين من عمره، رحلةَ شتاته بالفرار من الحرب في مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار، مروراً بالقضارف وبورتسودان، ليصل أخيراً إلى كمبالا التي قصدها باحثاً عن الأمان وعن فرصة لاستئناف دراسته التي قطعتها نصال الحرب. كان حلمه بسيطاً: دراسة اللغة الإنجليزية وإدارة الأعمال في العاصمة اليوغندية، مستنداً في ذلك على دعم أخيه المقيم بالخليج، ووعود من بعض الأصدقاء، والعمل بجانب مواصلة الدراسة. لكن سرعان ما تحطّمت آماله على صخرة الواقع، إذ واجه ارتفاعاً لم يتوقّعه في تكاليف المعيشة والدراسة، وشحّاً حادّاً في فرص العمل، مما فاقمته موجات النزوح المتزايدة والظروف الاقتصادية العسيرة في يوغندا.
لم يجد محمد مفرّاً من اتخاذ قرار العودة المؤلم إلى سنجة، رغم فاجعة نهب منزله وضياع كل ما ادّخرته أسرته، مُعلّقاً آماله على استئناف حياته في التجارة والزراعة، لكن عودته ما زالت قراراً ينتظر التنفيذ كما أفضى لمراسل «أتَـر»، إذ تقف في طريقها عقبة التكاليف. يحتاج محمد إلى 400 دولار لتذكرة العودة من كمبالا إلى بورتسودان عبر الطيران، و150 دولاراً إضافية للوصول إلى سنجة بولاية سنار. وهو مبلغ يتعذر عليه توفيره حالياً.
محمد ليس الوحيد الذي اتخذ قرار العودة، وحالت تكاليفها المالية دون التنفيذ: بعد عامين من الصراع الدامي الذي لا يزال ينخر جسد السودان، وبينما كانت دول الجوار تمثّل طوق نجاة مؤقتاً للهاربين من جحيم الحرب، يجد اللاجئون السودانيون في يوغندا أنفسهم اليوم في مواجهة واقع أشدَّ قسوة. وبسبب الارتفاع البالغ في تكاليف المعيشة والسكن، وقرارات دولية بتقليص الدعم الإنساني، بات قرار العودة إلى وطنهم رغم جميع المخاطر هو المخرج الوحيد، لكنه يتمنَّع أيضاً. هنا، تتجسّد قصص الأمل في خوض رحلة أخرى، من مدن يوغندا إلى مدن السودان المُدمَّرة، بحثاً عن بصيص من الحياة والألفة وسط أنقاض الماضي.
في 6 أبريل الجاري، بلغ عدد اللاجئين السودانيين المسجّلين في يوغندا 76,049 شخصاً، وذلك وفقاً لبيان المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، من بينهم 75,857 حصلوا على حقّ اللجوء رسمياً، بينما لا يزال 192 شخصاً قيد دراسة طلبات لجوئهم، إضافة إلى 4,769 فرداً من ذوي الاحتياجات الخاصة.
منذ اندلاع الحرب في السودان، شهدت يوغندا تدفقاً متزايداً للاجئين السودانيين الفارّين من الصراع الناشب في بلادهم. وقد بلغ عدد الذين نزحوا من ديارهم أكثر من 12 مليون شخص، منهم أكثر من 8.6 ملايين نزحوا داخلياً، بينما عبر أكثر من 3.9 ملايين الحدود نحو دول الجوار. وتعدّ مصر وتشاد وليبيا وإثيوبيا وجمهورية جنوب السودان ويوغندا من بين أكثر الدول استقبالاً للّاجئين السودانيين.
وهذه مروة إبراهيم، أمّ لثلاثة أطفال وتقطن حي أنتيندا بكمبالا، تتحدث إلى مراسل «أتَـر» عن الدافع القويّ الذي أجبرها على التفكير في العودة إلى السودان. بصوت يعكس اليأس، تقول: «يحتاج أبنائي إلى علاج مستمر وقد بات الارتفاع في تكاليف العلاج والإيجار في كمبالا عبئاً يفوق قدرتنا بكثير، على عكس مصر التي يراها كثيرٌ من أقاربي ومعارفي ملاذاً اقتصادياً وعلاجياً أفضل».
وصلت مروة وأطفالها إلى كمبالا من نيالا في نهاية عام 2023، بعد رحلة محفوفة بالمخاطر عبر جنوب السودان، تكبّدت خلالها العائلة تكاليف ترحيل باهظة. تضيف بحسرة: «لقد كلّفنا الخروج من السودان كثيراً بالفعل، لكن الأوضاع الأمنية في مدينتنا كانت لا تطاق».
لا تستطيع مروة أن تعود إلى مدينتها نيالا التي ما زالت ترزح تحت قبضة الدعم السريع، وهي ترى أنّ العيش في الولايات السودانية التي تتمتع بأمان نسبيّ ضرباً من الخيال، بسبب الغلاء وارتفاع تكاليف الإيجارات وتهديدات الدعم السريع المستمرة باجتياحها.
وتؤكّد مروة، أنّ كمبالا لم تعد تمثل الخيار الاقتصادي الذي كانت عليه قبل تدفّق اللاجئين المتزايد، خاصة بعد قرارات تقليص المساعدات والدعم المقدّم لهم. وشأنها شأن محمد بشرى تختتم حديثها بأسى قائلة: «أحتاج أنا وأسرتي الآن إلى أكثر من ألف دولار للوصول إلى مصر، للفرد الواحد تهريباً، وهو ما لا نملكه الآن».
لا تختلف قصة عمار آدم كثيراً عن قصتَي محمد ومروة. قَدِم عمار إلى يوغندا، عبر مطار بورتسودان، من مسقط رأسه بولاية الجزيرة بعد أن اجتاحتها قوات الدعم السريع في ديسمبر 2023. بكلمات قليلة لكنها تحمل في طياتها كثيراً من المرارة يعلّق عمار على قراره بالعودة قائلاً لمراسل «أتَـر»: «كان يراودني شعور قاتم بأن الصراع في السودان سيطول. والآن هذا عام وأكثر في اللجوء، ونهاية مؤلمة بالعودة إلى الخراب».
مع استمرار الحرب واستنزاف مدّخراته تدريجياً، وجد عمار نفسه عاجزاً عن تحمّل التكاليف المتزايدة للحياة الأساسية، من إيجار المسكن وفواتير الكهرباء والمياه والإنترنت. ورغم الدمار الذي لحق بمنزله في السودان ونهب محتوياته، لا يزال عمار يتمسّك بإصرار قويّ على العودة ومحاولة إعادة بناء حياته التي دمّرتها الحرب.
وقد اختار عمار طريق العودة إلى السودان، عبر جنوب السودان، مضيفاً بقلق: «تشهد الحدود والولايات المتاخمة لدولة جنوب السودان توترات كبيرة الآن، لكن لعدم قدرتي على توفير تكاليف تذاكر الطيران والنقل الداخلي، لم أجد غير المغامرة والذهاب برّاً لأنه طريق أقصر من حيث المسافة وأقل تكلفة من الطيران».
ويخشى عبد العظيم، الذي لجأ وأسرته إلى يوغندا، من أن ينفق ما في يده من مال قبل أن يستطيع هو وأسرته العودة إلى السودان، ويقول متحدثاً لمراسل «أتر»، إنه قرر البدء في رحلة الرجوع بأسرع ما يمكن، خاصة مع الصرف العالي على تكاليف المعيشة في يوغندا، ويضيف أن تكلفة عودته وأطفاله السبعة قد تزيد عن تكلفة وصولهم إلى يوغندا، خاصة أن الأثاث الذي اشتراه لدى وصوله، ستنخفض قيمته مع الاستعمال، إضافة إلى ارتفاع أسعار السفر بالبر عبر جنوب السودان بسبب الإقبال على العودة إلى السودان، ما قد يؤثر كذلك على أسعار تذاكر الطيران.