
بعد سنتين من اندلاع الحرب الطاحنة بين الجيش والدعم السريع، ومع تقدّم الجيش السوداني والقوات المتحالفة معه والقوات المساندة له، واستعادته زمام الأمور في مناطق جديدة بوسط البلاد وغربها، بخاصة العاصمة الخرطوم، بدأت بوادر الأمل تتسلّل من بين ركام الألم، لا سيما بعد دعوات الحكومة في بورتسودان لتسهيل عودة المواطنين. وبات حلم العودة إلى الوطن يراود آلاف النازحين واللاجئين السودانيين الذين تقطَّعت بهم السبل في عواصم دول الجوار، حيث يعيشون أوضاعاً إنسانية تزداد قسوةً يوماً بعد يوم بين مطرقة الفاقة وسندان النزوح، وقد أنهكت الحرب مواردهم واستنفدت طاقتهم، وحتى يد العون التي طالما امتدت من الأقارب والمغتربين بدأت تخور، ولم يعد بمقدور كثيرٍ منهم مواصلة دعم أكثر من أسرة في ظلّ أزمة ممتدة بلا أفق.
لكن تبقى الأسئلة الكبرى معلّقة: كيف ستكون العودة؟ وأي وطن ينتظرهم؟
في قلب هذا الحلم المعقود على العودة إلى الديار، تبرز معاناة السودانيين في إثيوبيا صورةً ماثلةً تُجسّد حجم الألم الذي يعيشه النازحون في المنافي القريبة. في أديس أبابا وغيرها من المدن الإثيوبية، تتكدّس القصص التي تحكي عن حياة الغربة واللجوء، وانعدام الأمن وانقطاع سبل العيش، وسط تحديات قانونية وإنسانية تُفاقم عزلة الفارّين من أتون الحرب.
عقب الإعلان عن دخول الجيش والقوات المساندة له إلى مدينة ود مدني، احتفل الباشمهندس نادر مع آخرين باقتراب حلم العودة إلى الديار. وبعد أيام كان نادر يقف عند أحد محلات الصاغة بمدينة أديس أبابا، في انتظار أن يتسلَّم قيمة سوار ذهبيّ تملكه زوجته سارة التي باعت كلّ ما تملك من ذهب لأجل العيش في أديس أبابا، وها هي الآن تبيع القطعة الأخيرة لتأمين تكاليف رحلة عودة الأسرة المُكوّنة من خمسة أفراد إلى السودان (زوجان وثلاثة أطفال). وقد اختاروا التهريب سبيلاً للعودة، لأنهم لا يستطيعون دفع قيمة الغرامة المالية المُترتّبة على مخالفتهم بالبقاء في إثيوبيا لخمسة أشهر، دون تجديد تأشيرة الإقامة، وتبلغ 7 آلاف دولار.
تواصل السُّلطات الإثيوبية فرض قيود صارمة على إقامة المواطنين السودانيين الفارّين من ويلات الحرب، إذ إنها تُلزم كلّ فرد بدفع مبلغ 100 دولار شهرياً لتجديد تأشيرة الإقامة. وفي حال مخالفة التجديد، تفرض غرامة مالية تبلغ 10 دولارات عن كلّ شخص يومياً، ما يزيد من الأعباء المعيشية على اللاجئين ويفاقم من أوضاعهم الإنسانية
بعد وصولهم إلى قُندر، أقلّتهم حافلة ميني بص إلى مدينة المتمّة الإثيوبية على الحدود مع السودان، وفي عصر اليوم ذاته، كان المهندس نادر يعقد اتفاقاً مع مجموعة من المُهرّبين على الحدود. وبعد أن توارَت الشمس خلف الأفق، تحرّكت الأسرة خلف مهرِّب اشترط أن يتسلّم جوازات سفرهم وهاتف نادر الجوال، على أن يردّها له بعد أن يعبروا «الخُور» ويدخلوا السودان؛ لكن بعد العبور طالَبَ المهرّب بمبلغ أكبر بكثير من المتفق عليه لكي يردّ لهم الهاتف وجوازات السفر، وكان له ما أراد.
قضَت الأسرة تلك الليلة بمدينة القَلّابات السودانية، وفي الصباح تواصلت رحلتهم إلى مدينة القضارف، التي لم يُمضوا فيها سوى دقائق لتناول وجبة سريعة، وبعدها كانوا في طريقهم نحو حلمهم المنشود حيت الديار بمدينة ود مدني.
لم تكن الصورة كما تخيّلها نادر وأسرته، فقد اصطدمت أحلامهم بواقع باهت، مدينة فقدت ألوانها ونبضها، كأنّ الحياة انسحبت منها بصمت، الشوارع خاوية إلا من الحنين، كأنها تَنْعى من رحلوا. غابت بعض الوجوه إلى الأبد، واختفى بعضها الآخر خلف دروب النزوح، البيوت فارغة، كلّ جدار فيها يروي حكاية، وكلّ زاوية تنبض بذكرى، لكن الذكريات وحدها لا تكفي لإحياء مدينة أنهكها الغياب.
بعد يومين من وصولهم إلى ود مدني تعرَّض نادر لعملية سطو مسلَّح أفقدته ما تبقى له، فعاد من جديد للنزوح هرباً من حلم ظلّ يراوده عاماً كاملاً، وها هو الآن في رحلة البحث عن حياة جديدة بمدينة كسلا بشرق السودان.
بحسب وكالة الأنباء السودانية «سونا»، أدار مساعد القائد العام للقوات المسلحة، الفريق مهندس إبراهيم جابر، في 14 أبريل 2025 بمدينة بورتسودان، الاجتماع الأول الخاص بترتيبات عودة النازحين السودانيين الذين شرّدتهم الحرب. وقال وزير الثقافة والإعلام خالد الإعيسر، إنّ الاجتماع قد ركّز على دَور الدولة في تسهيل العودة الكريمة للمواطنين، عبر تهيئة المعابر الحدودية وضمان جاهزيتها من النواحي الأمنية والصحّية والخدمية، مع توفير آليات النقل المختلفة من نقل جوّي وبرّي ونهري.
تضع الحكومة الإثيوبية الفارّين من الحرب أمام خيارين، إما البقاء في المعسكرات، أو دفع رسوم للإقامة، أي أنها تمنع «اللجوء المدني»، أو إقامة اللاجئ في المدينة كما يحدث في مصر ويوغندا وغيرهما.
في يناير الماضي، عمّت مشاعر الفرح والتفاؤل أوساط السودانيين المُقيمين في إثيوبيا، عقب إعلان صادر من السفارة السودانية بأديس أبابا، دعا الراغبين في «العودة الطوعية» إلى الوطن للتسجيل عبر برنامج وُصف حينها بالمبشّر. وقد تفاعل معظم السودانيين هناك مع المبادرة، فسارعوا إلى إرسال بياناتهم وصور جوازاتهم، أملاً في طيّ صفحة المنافي والعودة إلى الديار، غير أن تلك المبادرة سرعان ما اصطدمت بجدار الواقع، إذ إنها لم تُترجَم إلى خطوات عملية، ما أثار موجةً من الإحباط والشكوك. وفي وقت لاحق، أوضحت السفارة السودانية، عبر الجالية، أنّ البرنامج لم يكن سوى محاولة أوّلية للتنسيق مع وزارة الخارجية الإثيوبية، دون أن يحمل التزاماً رسمياً أو جدولاً زمنياً واضحاً للتنفيذ.
ووفقاً لمصدر مقرب من السفارة، فقد أبدت وزارة الخارجية الإثيوبية ترحيبها المبدئي بمبادرة العودة الطوعية التي طرحتها السفارة السودانية، مُشيرةً إلى أنّ تنفيذها يجب أن يجري وفقاً للقوانين واللوائح المنظمة للهجرة في البلاد. ويأتي هذا الترحيب مشروطاً بضرورة تسوية المخالفات القانونية المتعلّقة بإقامة عدد كبير من السودانيين، عبر سداد الغرامات والمتأخّرات المستحقّة بموجب قانون الهجرة الإثيوبي.
وتجدر الإشارة إلى أن السُّلطات الإثيوبية تواصل فرض قيود صارمة على إقامة المواطنين السودانيين الفارّين من ويلات الحرب، إذ إنها تُلزم كلّ فرد بدفع مبلغ 100 دولار شهرياً لتجديد تأشيرة الإقامة. وفي حال مخالفة التجديد، تفرض غرامة مالية تبلغ 10 دولارات عن كلّ شخص يومياً، ما يزيد من الأعباء المعيشية على اللاجئين ويفاقم من أوضاعهم الإنسانية. وتضع الحكومة الإثيوبية الفارّين من الحرب أمام خيارين، إما البقاء في المعسكرات، أو دفع رسوم للإقامة، أي أنها تمنع «اللجوء المدني»، أو إقامة اللاجئ في المدينة كما يحدث في مصر ويوغندا وغيرهما.
وفي ظلّ هذه الأعباء المالية الثقيلة، يضطرّ عدد كبير من السودانيين المقيمين بإثيوبيا، شأن نادر وأسرته، إلى الفرار عبر طرق التهريب عائدين إلى السودان، هرباً من تكاليف الإقامة الباهظة. وقد شكّل ذلك تحدّياً آخر لهم، لأنه يُعرّضهم أنفسهم لمخاطر كبيرة، نظراً إلى سوء الأحوال الأمنية بإقليم الأمهرا المتاخم للحدود السودانية. وقد تعرّض كثيرٌ منهم لحالات سرقة لممتلكاتهم وعمليات ابتزاز تنتهي غالباً بدفع مبالغ مالية كبيرة. وخلَّفَ هذا اللجوء غير المنظم التزامات مالية مُتراكمة على كثير منهم للسلطات الإثيوبية، تُقدَّر بآلاف الدولارات للأسرة الواحدة.
وقد فرضت عليهم السّلطات الإثيوبية التوجّه إلى معسكرات الإيواء في حال التقدّم بطلب لجوء، ما دفع الغالبية العظمى إلى الإحجام عن طلب اللجوء، نظراً للأوضاع الأمنية والمعيشية المتردّية في تلك المعسكرات، لا سيّما بعد تداول روايات مأساوية عن أوضاع اللاجئين السودانيين في معسكري أولالا وكومر، إذ اضطرّوا إلى العودة سيراً على الأقدام إلى السودان، بعد أن قضوا قرابة مائة يوم في الغابات دون أن يتلقّوا أي شكل من أشكال الدعم والمساعدة من الجهات المعنيّة.
رغم قسوة الواقع وتعقيد الظروف، لم يقف السودانيون الفارّون من الحرب مكتوفي الأيدي أمام محنتهم في إثيوبيا، فقد بذل عدد منهم جهوداً مضنية للتواصل مع منظمات دولية وبعثات دبلوماسية متعددة، حاملين إليهم صوت المعاناة ومشهد المأساة المتفاقمة التي يعيشونها في منفاهم القسري، فطرقوا أبواب الأمل، علَّ الاستغاثة تُسمع والأنين يجد صداه، لكن محاولاتهم لم تُكلَّل بأي استجابة تذكر، وظلّت صرخاتهم خافتة في زحمة المصالح والصمت الدبلوماسي.