أتر

نوتة من علم الكونكا (9)

«أعرفي مقام نفسِك براك

ما تسألي الزول المعاك

تباشي كلبة ميتة

كلبة ميتة، كلبة ميتة

جنوبيين نار الضَّلِع

علي تباشي في الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

بِسْ!

حميدتي نار الضَّلِع!

الساكن جبرة نار الضَّلِع!

في المخدّة».

من أغنية «نار الضَّلِع» للفنانة مروة الدولية.

غَفَر المرحوم كارل ماركس، بوصفه مؤرِّخاً للبروليتاريا الباريسية، حُسْنَ ظنِّها بالبروليتاريا الرثَّة، وكان قد كالَ السُّبابَ للبروليتاريا الرثَّة مناضلاً في ثورة 1848، والعِلَّة ربّما أنَّ حسابَ التاريخ لا يقوم على خطأ وصواب، والعِبْرة غير التجربة. وتجد القارئةُ عند صَفيِّ المرحوم ماركس ورفيقِه في نضالات 1848 المرحوم فردريك إنجلز سوءَ ظنٍّ شبيهٍ مَرَدُّه أيضاً إلى التجربة. سطَّر المرحوم إنجلز، بوحيٍ من انكسار الثورة في 1848، كُتيِّبَه «حرب الفلّاحين في ألمانيا»، واستعرض فيه من باب المقارنة التربوية ما وَقَع في البلاد الألمانية عام 1525 من تمرُّدٍ واسعٍ للفلّاحين بعدسةِ وقائع الثورة والثورة المضادّة في 1848-1849. وكان المرحوم إنجلز، وكُنيَتُه «الجنرال» بين الأحباب، على خلافِ دودة الكتب المرحوم ماركس، صاحبَ تجربةٍ عسكريةٍ، وعالِماً بالشّوكة، وله في المسألة نظراتٌ، إذ تطوَّع صبيّاً في المدفعية البروسية في برلين عامي 1841-1842، وقاتَلَ متمرِّداً في ثورة 1848 من أجل إسقاط ملكيّة بروسيا وانتزاع السُّلطان على حرف دستور فرانكفورت، وهو الدستور الذي تَوافَقَ عليه أوَّلُ برلمانٍ منتخَبٍ لكلّ ألمانيا، وانهزَمَ مع المنهزمين في انتفاضة البرفلد عام 1849 بعد معارك ضارية ضدّ الجيش البروسي، كما حارَب في صفِّ جيش بادن الشعبي وانهزم صفُّه كذلك شرَّ هزيمة.

انتهى المرحوم إنجلز، في استعراضه الذي جمَع بين ثورات 1525 وثورات 1848، إلى قياسٍ لموقعِ كلِّ طبقةٍ اجتماعيةٍ في فوران الصراع الاجتماعيّ، فالبروليتاريا صاحبةُ الشأن، وهي عنده التي تعتمدُ بالكلّية وعلى الدوام على العمل المأجور، ما زالت قليلةَ العدد، ما يُجبرها على البحث عن حلفاء وقت احتدام الصراع، وقد وجدَتْ هؤلاء وسط البرجوازية الصغيرة وأدنى فئات البروليتاريا الحضَرية وصغار الفلّاحين والعمّال الزراعيين. وأضعفُ حلقاتِ هذا الحلف، عند المرحوم إنجلز، هي البرجوازية الصغيرة؛ فهي طبقةٌ ثرثارةٌ لا يمكن الاعتماد عليها على الإطلاق، إلا إذا تحقَّق النصرُ فعلاً، يَصُكُّ صوتُ طَرْبَقَتها في الصّوالين والنوادي الآذانَ، لكنْ قد تجدُ بينَها عناصرَ طيّبةً تتّبع طريق العمّال. وأفرَدَ المرحوم إنجلز للبروليتاريا الرثّة سباباً خاصّاً فقال: «حثالة العناصر المتعفِّنة من جميع طبقات المجتمع التي تتراكم في المدن العظمى» و«أسوأ حليفٍ طُرّاً، طاقمٌ ما أشدَّ فسادِه ووقاحته». جاء إنجلز لتعضيد حُجَّته بتفصيلٍ من الثورة الباريسية عام 1848، فقال كتب العُمّال على الجدران «الموتُ للشَّفْشَافة»، وقتلوا العديد منهم بما توفَّر لهم من سلاح، ليس لحماسٍ اعتراهُم نحو الملكيّة الخاصّة لكنْ لأنّهم وجدوا أنَّ من الضروريّ فرز صفِّهم من هذه العناصر الحثالة. ثم أضاف في صيغة القانون: «إنّ كلّ قائدٍ للعُمَّال يجنِّد بروليتاريا المَجَاري هذه كحَرسٍ أو سَندٍ يثبت بفعلته هذه ولوحدها أنّه خائنٌ للحركة» (فردريك إنجلز، «حرب الفلّاحين في ألمانيا»، دار التقدم، موسكو، 1977، ص 14).

على كلّ حال، علَّل المرحومان كارل ماركس وفردريك إنجلز سوءَ ظنِّهما بالبروليتاريا الرثَّة بما وَقَع مِن تجربةٍ في 1848-1849. وكان الخطأ المغتفَر للبروليتاريا الباريسية، أنّها اطمأنّت للبروليتاريا الرثّة في أوار الصّراع، بينما جنّدت الجمهورية البرجوازيّة عناصرَ البروليتاريا الرثَّة في كتائب «الحرس المتنقّل» لقمع ثورة البروليتاريا عليها، فوجدت البروليتاريا نفسها في انتفاضتها في يونيو 1849 في مواجهة حلفٍ غالبٍ جمَعَ «ارستقراطيّة المال، والبرجوازيّة الصناعيّة، والطبقة الوسطى، والبرجوازية الصغيرة، والجيش، وحثالة البروليتاريا المنظَّمة في «الحرس المتنقّل» وكبار المثقَّفين والكهنة، وسكّان الريف. ولم تقف إلى جانب بروليتاريا باريس سوى نفسها». انهزَم صفُّها، وذَبَحت الثورةُ المضادّةُ، بعدما انتصرت، في مقتلةٍ عظيمةٍ 3 آلاف نَفْس من الثوّار، ونفَت 15 ألفاً آخرين بغير محاكمة. وغادرت البروليتاريا، بهذا الانكسار، مسرحَ الأحداث، وانزوت في كواليس التاريخ تحاولُ مرّةً وأخرى أنْ تتقدَّم من جديدٍ، لكنْ كلّ مرّةٍ بعزمٍ أضعف ونتائج أهوَن (كارل ماركس، «الثامن عشر من برومير لويس بونابارت»، ضمن: كارل ماركس وفردريك إنجلز، «الأعمال الكاملة»، م 11، لورنس ووشرت للنشر، لندن، 1979، ص 110).

اتّخذت الرّشوةُ التي تلقّتها البروليتاريا الرثّة، لتنقلب على ثوّار باريس وتسفك دماءهم في مجازر يونيو، أوّلَ أمرها، صورةَ «العمل الخيري»؛ جنَّدَت قوى الثورةِ المضادّة، تحت ستار تكوين جمعية خيرية، مَن استهدفتهم من «بروليتاريا المجاري»، بعبارة المرحوم إنجلز، في مجموعاتٍ سرّية، يقوم على كلِّ واحدٍ منها أمينٌ مختارٌ، وعلى رأس المجموع ضابطٌ عظيمٌ من حلف الرئيس؛ رئيس الجمهورية الثانية لويس نابليون بونابارت (لاحقاً نابليون الثالث)، المنتخَب في 1848 بفضل الثورة، والذي انتزَع السُّلطة لنفسه كاملةً في انقلاب ديسمبر 1849 بعد أن كسَر شوكة البروليتاريا الباريسية في انتفاضة يونيو 1849.

كتب المرحوم ماركس إنّ هذا الجيش الجديد؛ الجيش الذي تمكّن به بونابارت من السُّلطة كاملةً، قد ضَمَّ: «فُسَّاقاً متعفِّنين معاشُهم مريبٌ وأصولُهم ملتبسة، ومغامرين من نبتٍ برجوازيّ انفرَطَ أمرُهم، ومُشرَّدين صعاليك، وجنوداً مُسَرَّحين، وأُمَناء سجون مُسَرَّحين، ومجرمين هاربين حُكِم عليهم بعبوديةٍ أبديةٍ في تجديف السفن، وأوَنْطَجيّة دجّالين، ومشعوذين نصّابين، وشمّاشة، ونشّالين، ومحتالين، وقُمُرتِيَّة، وقوَّادين، ومُلّاك مواخير، وحمّالين، ومثقّفين، وعازفين متجوّلين، وزبّالين، ومُطّرِّقين، وسَمْكَرجيّة جوّالة وشحّاتين؛ بالمختصر: كامل الكتلة المتفسِّخة ملتبسة الهويّة، القصيّ منها والقريب، التي يدْعُوها الفرنسيّون  بالبوهيميّة». كوَّن لويس بونابارت من جميع هؤلاء حزبه، جمعية العاشر من ديسمبر (كارل ماركس، «الثامن عشر من برومير لويس بونابارت»، المصدر السابق، ص 149). وكان حزب بونابارت عند المرحوم ماركس فعلاً جمعيةً خيريّةً في معنى أنَّ أعضاءه، كما سيّدهم بونابارت، ظنّوا في أنفسِهم استحقاقاً أنْ يُثروا على حساب الشعب العامل. وكان اختراقُ زعيمهم، زعيم البروليتاريا الرثّة، لويس بونابارت، أنْ حرَّر لهم هذه الغريزة، غريزة «الشَّفْشَفة»، وحلَّلَها، حيث اكتشف في هذه الطبقة، «سقط الطبقات الأخرى، حُثالتها، وقمامتها» ذات الغريزة التي تحفزه هو شخصياً، ووَجَد صورةَ نفسِه في هذا اللَّمُوم، فوافَقَ شنٌّ طبَقة، وصارت بذلك الطبقة التي يقوم عليها سُلطانُه بغير شرط أو فرض، جمَع منهم عشرة آلاف وسمّاهم «الشّعب». لم يغفر المرحوم ماركس للبروليتاريا الرثّة، لكن أجاز الخطأ للبروليتاريا الباريسيّة وقال «بتتعلَّم من الأيّام»، فما الدّرس؟

يُتبع

Scroll to Top