
ليست مفاجأةً أن تهيمن التعريفات المُتضاربة للحرب، على فضاء النقاش العام بين السودانيين. إذ لا يخلو أيّ نقاش من عبارات مثل «حرب وجودية»، أو «حرب كرامة»، أو «حرب من أجل الديمقراطية»، أو «حرب عبثية»، أو «حرب دولة 56»، أو «حرب ضد الاستعمار الجديد»، وتُوظَّف بوصفها عناصر محوريّة في بناء الحجج المؤيِّدة أو المعارضة للمواقف السياسيِّة. وليست هذه الظاهرة نادرةً في السودان، ولا هي غير متوقّعة. إنها تعكس دينامية عالمية تنتشر فيها السّرديات المُتنافسة في أوقات الحروب. ومثل هذه السرديات تنبع من الحاجة إلى تعبئة الدعم الشعبي للأعمال العسكرية أو الاستغلال، ومن حاجة أعَمّ إلى تبرير المواقف والاستراتيجيات السياسية وإضفاء طابع عقلاني عليها.
تعمد أطراف الصراع إلى صياغة تعريفات مُتباينة للحرب، كي تُضفي مشروعية على مواقفها، متصارعةً لا على أرض المعركة فحسب، إنما على ساحة الرأي العام أيضاً. وتعمل جميع المجموعات المتأثرة بالصراع، سواءٌ أكانت منتسبةً إلى أحد الأطراف أم من خارجها، على إنشاء سردياتها الخاصة؛ التي تعكس الرهانات العقائدية والمصالح المادية واستراتيجيات البقاء لكل منها. ومن خلال تتبّع هذه التعريفات المتغيّرة، نحصل على أداة مفيدة ومنظورات نقدية تُمكّننا من رسم خارطة القوات المتنافسة في المجتمع؛ والتي من شأنها أن تُؤثّر على الواقع الراهن في السودان، وكذلك على إمكانات تحقيق مشروع ثوريّ يتأسّس على حرية الشعب السوداني وتنميته.
هذا التناقض يُشير إلى أنّ الجهد الذي يبذله الدعم السريع لترسيخ هذه الرواية، لا يعني الشعبَ السوداني في شيء؛ وإنما هو مُوجَّه إلى جهات فاعلة أخرى، لعلّها المجتمع الدولي!
حاولَت قوات الدعم السريع الترويج لسرديةٍ مفادُها أنّ الحرب التي تخوضها هي حرب من أجل الديمقراطية ضدّ حكومة انقلابية، لها صلات بمشاريع وقوى سياسية إسلامية، غير أنّ الرأي العام السوداني قد قابَل هذه السردية بالسخرية منذ الأيام الأولى للحرب. وقد جلبت الدعم السريع إلى المناطق الحضريّة والقرى الصغيرة الخاضعة لسيطرتها، نمطَها المعتاد من النهب والتهجير والحكم المجزّأ، وهو النمط الذي سبق أن شهدته دارفور خلال الحرب التي اندلعت فيها، واستمرّ حتى تهجير المجتمعات من مناطق التعدين في السنوات الأخيرة.
لقد شهد الشعب السوداني، ولفَت الانتباه، إلى التناقض بين ما يتعرّض له من نهب وقتل وتعذيب على يد قوات الدعم السريع والسردية التي تحيكها هذه القوات حول الديمقراطية. وما فتئت قوات الدعم السريع تستخدم هذا الخطاب، رغم فشلها البَيِّن في كسب أيّ دعم شعبي. وهذا التناقض يُشير إلى أنّ الجهد المبذول لترسيخ هذه الرواية، لا يعني الشعبَ السوداني في شيء؛ وإنما هو مُوجَّه إلى جهات فاعلة أخرى، لعلّها المجتمع الدولي! ويُعزِّز من هذا التفسير أيضاً، أنّ الدعم السريع تركّز على استخدام عبارات مُوجَّهة إلى المجتمع الدولي، بمثابرتها على وصف الجيش وحلفائه بأنهم منظّمات إرهابية. كذلك سعت قوات الدعم السريع إلى تصوير الحرب على أنها بين المهمّشين والمحرومين ضدّ المركز الاستغلالي. وظلّت هذه الرواية تتردّد على نحو متزايد في البيانات الرسمية لقوات الدعم السريع وعلى ألسنة الناطقين باسمها، سواء أكانوا رسميّين أم غير رسميّين، ما يعكس محاولةً لحشد دعم الفئات الاجتماعية والإثنية المهمّشة تاريخياً، عقب فشل سردية «حرب الديمقراطية» في استمالة المجتمع الأوسع.
وقد دحض النقاش العام هذه السردية في مهدها، استناداً إلى الفظائع التي ارتكبتها الدعم السريع في مناطق سيطرتها بحقّ القرويّين الفقراء والنساء المسنّات وذوي الدخل المنخفض، فضلاً عن الثروة والسّلطة اللتين تتمتع بهما قيادة هذه القوات. وسلّطت هذه الحجج الضوءَ على التناقض الماثل بين تعريف يضع في الاعتبار الحالة الاقتصادية والاجتماعية لـ «المحرومين»، وتعريف آخر يقصر حالتهم على أساس انتمائهم العِرقيّ ليس إلا!
ولشرعنة العنف بيروقراطياً، يُقيَّم الفاعلون السياسيون استناداً إلى هياكلهم البيروقراطية ومواقعهم في جهاز الدولة، بدلاً عن تقييمهم استناداً إلى تأثيرهم على حيوات الناس. إنّ هذه السردية قديمة قِدم المفهوم حول الدولة نفسها، وهي أداة استخدمتها النخب تاريخياً لتبرِّر بها العنف الذي تمارسه على المجتمعات التي تستغلّها
ههنا بلغت معركة التعريفات مرحلةً كان يمكن فيها لصوتٍ اشتراكيّ نقديّ مُنظّم أن يطرح تأطيراً ثورياً علمياً لهذه القضية التي انتبه لها الشعب بدقّة، يُقدّم فيه تحليلاً للمصالح يدعو إلى إنشاء تحالف بين المحرومين اقتصادياً واجتماعياً ضدّ أولئك الذين يستأثرون بالسُّلطة والثروة؛ بصرف النظر عن انتماءاتهم العِرقيّة. أباح غيابُ هذا الصّوت لحُجّة صالحةٍ أن تتحوّل إلى أداة لتأجيج الانقسام العِرقي، وإنكار التهميش التاريخي، وأذكى نار الانكفاء على التحالفات الإثنية.
وبأيّ حال، ظلّت سردية الدعم السريع هزيلةً وعاجزةً عن استقطاب ما يكفي من دعم السكّان بالنسبة اللازمة لشرعنة مطالبتها بالسُّلطة.
في المقابل، كانت القوات المسلحة السودانية «الجيش»، أكثر نجاحاً في سردياتها التي انطلقت من أبسط مستويات قوة الجيوش، والشرعنة البيروقراطية للعنف، والوعد بتوفير الأمان.
في مطلعها، عرّف الجيشُ الحربَ على أنها حربٌ ضدّ مليشيا متمرّدة، مشدّداً على الطابع المؤسَّسي للقوات المسلّحة، وكلّياتها العسكرية وطقوسها النظاميّة، بوصفها أدلّة على استقامة مَوقِفه. وفي هذه السرديّة، غُضَّ الطرفُ ببساطة عن الجرائم التي ارتكبتها الدعم السريع طوال سنواتٍ تحت إشراف الجيش؛ فضلاً عن الجرائم التي ارتكبها الجيش بنفسه، أو أنها لم تُوضَع في سلّم الأولويات.
ولشرعنة العنف بيروقراطياً، يُقيَّم الفاعلون السياسيون استناداً إلى هياكلهم البيروقراطية ومواقعهم في جهاز الدولة، بدلاً عن تقييمهم استناداً إلى تأثيرهم على حيوات الناس. إنّ هذه السردية قديمة قِدم المفهوم حول الدولة نفسها، وهي أداة استخدمتها النخب تاريخياً لتبرِّر بها العنف الذي تمارسه على المجتمعات التي تستغلّها، باستخدام أذرُع الدولة العنيفة المعتَمَدة بيروقراطياً، سواءٌ أكانت تلك الأذرُع هي الشرطة أم الجيش، أم غيرهما. إنّ عقود الدعاية، التي شكّلت الوعي العام، وجعلت العنف الممارَس برضا الدولةِ أمراً طبيعياً، قد ساهمت في نجاح ترويج هذه الحجّة وسط الناس.
وكان الوعد بتحقيق الأمان والعودة إلى الاستقرار أيضاً حاضراً في تصريحات قادة القوات المسلحة، وهم الذين كرَّروا أنّ الحرب ستنتهي قريباً «أسبوع ولا أسبوعين»، كما قالوا قبل سنتين. منذ أيام الحرب الأولى، وَجدت هذه الحُجّة طريقها إلى تهدئة الشعب، واستُخدِمت مسوّغاً لتدمير بيوت المدنيين، وتأجيج الدعوات لشنّ هجمات أشدّ فتكاً على الدعم السريع. كما أفسَحت تلك الحجة، المجال في وجه الأساطير حول «الضربة القاضية» التي ستوجّهها القوات المسلحة للدعم السريع في الساعات القادمة، وما يزال صداها يتردّد أياماً وأسابيع. ومع استمرار الحرب لسنتين، انحسر ذاك الوعد ليصبح وعداً بـ «العودة إلى الوضع الطبيعي»، دون الإجابة عن سؤال متى؟
تجسَّد هذا المبدأ في عمل شبكات المساعَدة المتبادَلة القاعدية، ولا سيّما غرف الطوارئ، فقد منحت الأولوية لتقديم الخدمات المرتكِزة على الناس وحقوقهم، مُحقِّقةً بذلك شعار «مجّانية الرعاية الصحية والتعليم».
كان ينبغي للاستجابة الثورية لهذه السرديّات، أن ترفض تعريف الشرعية بناءً على ادّعاءاتٍ مجرَّدة، وأن تؤسِّسها بدلاً عن ذلك على كيفية تأثير كلّ طرف على حيوات البشر، وأن تؤكّد على أنّ الأمان حقّ أساسي، لا ورقة تفاوض تُستخدم لتبرير الحكم العسكري، وأنّ «الاستقرار» السابق كان مبنيّاً على عنفٍ واستغلالٍ مُمنهَجين، وهذا ما يجب علينا تجاوُزه لا إحياؤه.
وقد تجسَّد هذا المبدأ في عمل شبكات المساعَدة المتبادَلة القاعدية، ولا سيّما غرف الطوارئ، فقد منحت الأولوية لتقديم الخدمات المرتكِزة على الناس وحقوقهم، مُحقِّقةً بذلك شعار «مجّانية الرعاية الصحية والتعليم». وقد دعَمت هذه المبادرات المجتمَعات المُحاصَرة والنازحة التي تخلّت عنها أطراف الحرب، إلا أنّها كانت تعمل دون تبنّي رؤية سياسية ثورية؛ من شأنها أن تُؤطّر المساعدات المتبادلة كأساسٍ لنموذج حكم دائم ومناهِض للحرب، يقوده الشعب بنفسه ومن أجله. وبدلاً عن ذلك، ظلّت الجهود حبيسةَ الإغاثة في حالات الطوارئ، مقيَّدةً بخطاب «العودة للوضع الطبيعي» الذي يتجاهل القمع البنيوي في تاريخ السودان. وقد أفسح هذا الفراغُ المجالَ أمام السرديات التي تروِّج لها القوات المسلّحة لترسيخ سُلطتها وكسب الدعم الشعبي.
وقد أتاح الدعم الشعبي المُتنامي للقوات المسلّحة فرصةَ تطوير سرديات مُربحة من الناحية السياسية على نحو أكبر. وكان في صلب هذا التصعيد، إعادة تعريف الحرب بوصفها حرباً من أجل الكرامة والسيادة. وهنا، أصبح الجيش مُرادفاً للدولة، وأضحت الدولة مُرادفةً للكرامة الشخصية. واستَغلّ هذا التأطيرُ الغضبَ الشعبيَّ ضد فظائع الدعم السريع سلاحاً لإضفاء شرعية على تصرفات الجيش، حتى دون وعود بتوفير الأمن، ومن ثم ترسيخ مفهوم الشرعية ضمن أفكار مجرّدة من الفخر الوطني، وقد رافقها وَصْمٌ خفيّ للقبائل التي تُعدّ حاضنة لقوات الدعم السريع، والتشكيك الضمنيّ في «سودانيتها».
وقد أعتقت هذه السردياتُ الجيشَ من التزاماته التي تُحتِّم عليه حماية المدنيين أو إعانتهم، بل وبِّررت التهوين من شأن الجرائم التي ارتكبها. كما ركَّزت هذه السردية على عدم شرعية قوات الدعم السريع وإجرامها، عند النظر إلى علاقتها بالجهات الدولية الفاعلة، وخاصةً الإمارات العربية المتحدة.
أغفَل هذا الجدالُ عدمَ شرعيّة أي علاقات دولية مع حكومة انقلاب القوّات المسلحة، مثلما أغفل التقاريرَ التي تناولت وجود علاقات اقتصادية قوية، وتصدير مستمرّ للذهب، بين الجيش والدولة الاستغلالية ذاتها، أي الإمارات العربية المتحدة. فهذه سردية تقوم أساساً على أنصاف الحقائق.
وعلى الرغم من التبايُن الصارخ بين سرديتَي الدعم السريع والجيش خلال الحرب، واختلاف مستويات نجاحهما، إلا أنّ كلا الطرفين قد صاغا مفهوم النصر من خلال السيطرة على أراضي سيادية وقواعد استراتيجية وعدد القوات. ولم يتضمّن تعريفُ أيٍّ منهما للنصر كفاءة تقديم الخدمات للناس في مناطق سيطرتهما، وهو تناقُضٌ فاضحٌ يكشف مدى تصادم أولوياتهما وأولويات المدنيين، ولا سيما المجتمعات الأشدّ تعرّضاً للقهر والاستغلال في السودان.
ومن بين المدنيّين غير المسلّحين الذين يدعمون أحد طرفي الصراع، اختلفت تعريفات الحرب ومؤشّرات النصر باختلاف الخطوط الطبقية الاجتماعية والاقتصادية، وتغيّرت بمرور الوقت. منحت الفئات الميسورة، ممن يملكون ثروة مادية أو امتيازات موروثة، الأولوية للسيطرة على المواقع السيادية والمعالم التاريخية، في تعبير عن رغبة في استعادة البُنى الاجتماعية التي تقوم عليها مكانتهم. في المقابل، شدّدَت المجتمعات المهمّشة على ضرورة تأمين السلامة والخدمات الأساسية. ورغم أنّ أياً من المجموعتين لم تركز حصراً على مؤشّر واحد للنصر، إلا أنّ أولوياتهما المتباينة كشفت عن انقسام حادّ وواضح.
كذلك تطوّرت السرديّات العامة: بعض الذين كانوا يرفضون في البداية مطالب الجيش السوداني بالولاء غير المشروط، تبنّوها لاحقاً تحت وطأة إرهاق الحرب واليأس من الوصول إلى حلّ. في المقابل، بدأ آخرون ممّن سَخِروا من ادّعاءات الدعم السريع الفارغة حول «حرب من أجل الديمقراطية» في تأييدها ضمنياً، في مواجهة تصاعُد خطاب المركزية وإنكار التهميش، الأمر الذي جعل إقامةَ تحالفٍ بين المضطهَدين يتجاوَز الانتماءات العِرقيّة أقلّ احتمالاً في مخيّلتهم من التحالفات الإثنية.
يوجد هذا النهج، المُتّسم بالسعي إلى النجاة، في تعريف الحرب وتحديد الموقف منها، بين المدنيين غير المنظّمين، وكذلك بين مجموعات المقاومة المنظّمة. لجان المقاومة، على سبيل المثال، التي كانت تمثّل القوة الأكثر تأثيراً في الحراك الثوري، أدانت مبدئياً طرفي الصراع على حدّ سواء. وعلى سبيل المثال أيضاً، قد أشار البيان التأسيسي لغرفة طوارئ أمبدة، إلى أنّ تخلّي الدولة عن الخدمات الأساسية لمصلحة تأجيج «الحرب المشتعلة منذ 15 أبريل من أجل السُّلطة والثروة، كان السبب وراء تأسيس غرفة الطوارئ». كذلك مَنحت العديد من اللجان الأولوية في بداية الحرب لـ «إنهاء الحرب وحفظ حيوات المدنيّين»، مع تعهّدها بالتمسّك بالمطالب الثورية رغم عنف الصراع. لكن، مع مرور الوقت، بات من الصعب عليها التوفيق بين المبادئ الثورية والدعم التكتيكي (وإن كان مؤقّتاً) للقوات المسلحة. وهي خطوة مرحلية اعتبرتها اللجان طريقاً مختصراً إلى إعادة الوضع القائم لحالة القمع «التي يمكن التعامل معها» على يد الدولة، بدلاً من العنف الغاشم بقوات الدعم السريع.
أدّى هذا التناقض إلى نفور المؤيّدين وتقويض دَورهم في الخطاب العام. وأدار الجمهور غير المنظّم من السودانيين ظهره للانخراط في تحليل سياسي لم يعد يمثّله، أو أنه اختار الانحياز للعسكرة الكاملة واستقرار الدولة النخبوية، بدلاً من دولة مؤقّتة ومفكّكة.
لقد تحوّلت كثيرٌ من الأجسام الثورية إلى وقود مسلّح للحرب. وفي الوقت ذاته، قدّم العديد من مثقّفي المقاومة المتجمّدة ذخيرةً نظرية لدعم شرعية شريكهم المؤقَّت المدَّعَى، القوات المسلحة السودانية. ودفعوا بأولوية حماية جهاز الدولة، دون أن يضعوا في اعتبارهم ميزان القوى داخل هذا الجهاز أو أثَره على حيوات المستَغَلِّين، بل وحتى إخفاقاته البنيوية الواضحة وظلمه الهيكلي.
ومرةً أخرى، أثبت غيابُ تنظيمٍ سياسيّ ثوريّ متماسك – وعلى وجه التحديد حزب اشتراكي منظَّم – مدى كارثيةِ هذا الغياب، إذ إنّه أدّى إلى تراجع الثورية الكامنة في السودان لسنوات إلى الوراء. فمن شأن حزبٍ مثل هذا – قائم على المبادئ الاشتراكية والمداولات الديمقراطية – أن يحلِّل الاستراتيجيات منهجياً، ويواجه الدعاية التي تروّج لها الطبقة الحاكمة، ويزوِّد المستَغَلِّين بتحليل ومشروع سياسي بديل يضع أولوياتهم واحتياجاتهم على قمة برنامجه، ويعبّئ الدروس المستفادة جماعياً من تجارب النضالات السابقة. ومن شأنه أيضاً أن يُخضِع النزعات البرجوازية للمثقّفين للانضباط، وهي النزعات التي غالباً ما يُشوّهها التحيّز الناتج عن امتيازاتهم المادية؛ التي يُشكّلها الوصول إلى الموارد والتعليم والتدريب المؤسّسي، ما يؤدي إلى انحرافهم عن مصالح القواعد الشعبية.
يُميطُ هذا الاستكشافُ للسرديات المتنافسة في زمن الحرب اللثامَ عن كيف أنّ تعريفات الصراع تتشكّل وفقاً للمصالح المادية ووعي المجموعات التي تتبنّى تلك التعريفات، والتي تنعكس في مشهد متصدّع: تؤسِّس الفئات النخبوية شرعيّتها على تراتبية عنيفة تُخضع حيوات المدنيين، بينما تتشبّث المجتمعات المحلّية المهّمشة برؤى بقاءٍ تُركز على الأمان.
وفي الوقت ذاته، أدّى غيابُ حزبٍ ثوريّ متماسك إلى انتشار وتفشّي سرديات الطبقة الحاكمة، المُعاد إنتاجها شكليّاً فقط عبر الفئات الاقتصادية والاجتماعية المتحالفة مع أحد طرفي الحرب.
وفي هذا، تتجلّى الدروس مرة أخرى بوضوح: لا يمكن تمزيق أوصال هذه الدوّامة إلا عبر بناء حزب اشتراكي منظّم، قادر على بناء مؤسّسات أيديولوجية وثقافية ثوريّة، يواجه بها هيمنة الطبقة الحاكمة والتسويات البرجوازية وخيانات المنظومة القائمة. لقد أكّدت التجربة الحديثة باستمرار ضرورة هذا الحزب. وحتى مع خفوت السرديات الثورية، لا تزال تُطلّ بين الفينة والأخرى ملامح مشروع بديل، تتجسّد في مطالب القواعد الشعبية من أجل سلام عادل؛ ملامح عابرة، إلا أنها حقيقية.
وما تزال هذه المهمّة عاجلة، بعيدة عن الأضواء، ولا مفرّ منها.