
هذا المقال تلخيصٌ لتقرير شارَك المؤلِّف في نشره بالأصل، ضمن فريق مركز الدراسات البيئية والاجتماعية. وهو يأتي في لحظة محورية، بعد سنتين من حربٍ وحشيّة، جعلت من تعدين الذهب المهنةَ الأولى للعاملين في البلاد، ومصدرَ الدخل الرئيس للسودان، بنسبة تفوق 50% من صادرات البلاد الرسمية، وهي أعلى نسبة مُساهمة للذهب في تاريخ البلاد.
راصداً أداء تعدين الذهب في السودان خلال عام 2024، لا يكتفي التقرير ببَسْط حجّته حول الدّور المحوري للذهب في تمويل الحرب، إنما يمضي إلى الحِجَاج بأنّ الطلقات الأولى للحرب قد بدأت في قطاع التعدين جراء محاولة السيطرة عليه. ويَخْلُص إلى أنّ الحرب التي لن تنتهي دون توجيه هذا القطاع لمصلحة بناء الدولة، بعيداً عن أيدي أمراء الحرب.
منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، تحوَّل قطاع التعدين في السودان إلى ساحة معركة أخرى تُدار في صمت، ساحة تتداخل فيها المصالح السياسية والعسكرية، مع طموحات النخب المتنفّذة، في بلد يُعاني من أكبر أزمة إنسانية في العالم، أدّت إلى نزوح ولجوء ما يفوق 12 مليون مواطن. وطوال سنتين، بينما يتضوَّر الناس جوعاً، ويعاني الأطفال وغيرهم من أكبر كارثة إنسانية، لم تُسهم الثروة المعدنية في إصلاح الوضع القائم، إنما استُخدِمت لتمويل الحرب وتعزيز سُلطة المليشيات، وتُرك الشعب ليواجه الفقر، والمرض، وتلوّث البيئة.
توسَّع تعدين الذهب في السودان، مع بداية ارتفاع الأسعار العالمية، خلال الأزمة المالية العالمية بعد 2007م، ثم قفزت معدَّلات الإنتاج والتوسُّع العشوائي مرة أخرى، بعد استقلال دولة جنوب السودان (2011)، الذي أفقَدَ البلاد 90% من مصادر النقد الأجنبي. ولم يتسنّ للسودان أن يجني شيئاً من حصاد أكبر موجتين لصعودٍ تاريخيّ لأسعار الذهب عالمياً؛ فقد تزامنت الأولى مع استقلال الجنوب والأخرى مع حرب 15 أبريل. في بداية الألفية كان يبلغ سعر الذهب حوالي 8 دولارات، وصعد إلى 59 دولاراً في 2011، ومن متوسّط 60 دولاراً عند بداية الحرب تجاوز سعره حالياً 100 دولار للجرام. كان الصعود الأخير نتاجاً لعوامل مرتبطة بالنزاع الروسي الأوكراني، وفرض تمويل أمريكا لأوكرانيا من الأصول الروسية المُجمّدة، ما قاد كثيراً من الدول إلى الابتعاد عن الدولار وزيادة الطلب على الذهب، إضافةً إلى أنّ نظم الاستدانة الأمريكية والبريطانية تعمل بضمان الذهب، وقد أصبحت قدرة احتياطيات الذهب على تغطية الديون موضع شكّ، فضلاً عن السياسات الجمركية التي قادت عدداً من الدول والبنوك للاتجاه إلى الذهب. إنّ ما يحدث محلّياً هو أحد انعكاسات هذا التحوّل العالمي الاستثنائي.
تُشير الأرقام الرسمية إلى أنّ السودان أنتج 64 طناً من الذهب خلال عام 2024، وهي كميّة تُعدّ مرتفعة مقارنة بالسنوات الماضية، ما يوحي ظاهرياً بتحسّن في الأداء الاقتصادي للقطاع. لكن التمعّن في تفاصيل هذه الأرقام يَكشف واقعاً مأساوياً؛ فالصادرات الرسمية لم تتجاوز 23 طناً فقط، ما يعني أن حوالي 34% فقط صُدّرت رسمياً من الذهب المُنتج، وأكثر من 41 طناً من الإنتاج المرصود رسمياً يُهرّب إلى خارج البلاد
من الملحوظ أنّ النشاط العسكريّ في قطاع التعدين، عند موجة صعود الذهب، قد كان محدوداً بالمقارنة مع وجود التجّار والقيادات المُرتبطة بنظام الإنقاذ وحزب المؤتمر الوطني. وقد تزايَد نشاط الأجهزة الأمنية تدريجياً مع زيادة الاعتماد عليها، وتراجَع دَور التجّار والقيادات. وقد توسّعت الدعم السريع منذ العام 2017، بالسيطرة على جبل عامر والعديد من المواقع، بعد تحوُّلها إلى جسم مستقلّ ذي قانون منفصل، وفي العام ذاته توسَّع نشاط جهاز الأمن في الإنتاج واحتكار التصدير عبر شركة السبيكة الذهبية. وليس من قبيل المصادفة أن تُؤسَّس منظومة الصناعات الدفاعية في العام ذاته، باستقلال مالي وإداري عن أجهزة الدولة، ما قاد إلى توسُّع الجيش في التعدين. وقد أفلحت جميع القوات والمليشيات، بما فيها قوات الدفاع الشعبي، في العثور لنفسها على موطئ قدم داخل هذا النشاط، ما عمَّق أكثر من ظاهرة عسكرة مورد الذهب. وعند النظر إلى ما تتمتّع به الأجهزة العسكرية عن الحكومة وأجهزتها السياسية من استقلالية؛ يتجلّى أيضاً مدى انفصال العسكر والذهب عن الحكومة. هكذا بدأت تتدحرج كرة الجليد.
وبالتوازي مع ما شهد السودان خلال العقد الماضي، شهد دَور الإمارات العربية المتحدة صعوداً عالمياً، إذ أصبحت في العام 2016م أعلى مُستوردٍ في العالم للذهب من أفريقيا. لقد طَرحت الإمارات سياسات مالية محفّزة جعلت منها الخيار المثالي للتجارة في الإقليم، وحلقة الوصل مع الأسواق العالمية، فضلاً عن أنها تستقبل الذهب دون تدقيق كافٍ، ما جعل منها الخيار المثالي للتهريب أيضاً، ووضعها ضمن القائمة الرمادية في 2023م التي تُصدرها مجموعة العمل المالي (FATF)، بسبب شُبهات مرتبطة بعدم كفاية ضوابط منع غسل الأموال وتراجُع الشفافية. يرتبط ذلك بذهب السودان على نحو لصيق؛ إذ تُوضّح الأرقام الرسمية أن معدّلات الذهب الواردة رسمياً إلى الإمارات من السودان، أعلى من تلك المُصدَّرة عبر الإجراءات الرسمية منذ فترات بعيدة، وهو مدخل لقراءة الارتباط بين نموّ السوق الموازي العسكري مع الصعود الإماراتي.
على الرغم من ارتفاع معدّلات الإنتاج، التي وصلت إلى 107 أطنان في 2017م، تبقى الأرقام الحقيقية أكبر من ذلك بكثير. وقد قدَّر حينها وزير الصناعة في حكومة الإنقاذ موسى كرامة، في بيان قدّمه إلى البرلمان، حجم الإنتاج في نفس العام بـ 250 طناً. وفاقَم التهريب من تراجُع الدولة وتوسّع السوق الموازي الذي تتصدّره الجهات العسكرية. ولم يفلح التحوّل السياسي، بعد ثورة ديسمبر التي أبهرت العالم بسلميّتها وعنفوانها ومَطالبها الجذرية، في كبح جماح الجهات العسكرية، بل تعمّق أثرها وزاد، وأبلغ مثال على ذلك هو تراجُع أرقام الإنتاج الرسميّ إلى 35 طناً في 2020م، رغم توسّع الإنتاج واستقرار الوقود، وهو مؤشّر لتوسّع سيطرة الجهات العسكرية على الذهب، الأمر الذي استمرّ بعد انقلاب 2021م، وتفاقَم بعد الحرب.
تُشير الأرقام الرسمية إلى أنّ السودان أنتج 64 طناً من الذهب خلال عام 2024، وهي كميّة تُعدّ مرتفعة مقارنة بالسنوات الماضية، ما يوحي ظاهرياً بتحسّن في الأداء الاقتصادي للقطاع. لكن التمعّن في تفاصيل هذه الأرقام يَكشف واقعاً مأساوياً؛ فالصادرات الرسمية لم تتجاوز 23 طناً فقط، ما يعني أن حوالي 34% فقط صُدّرت رسمياً من الذهب المُنتج، وأكثر من 41 طناً من الإنتاج المرصود رسمياً يُهرّب إلى خارج البلاد، دون أن يمرّ عبر القنوات الحكومية أو يدرّ على خزانة الدولة أي عائد. وتُقدّر قيمة هذه الكمية المهرَّبة بأكثر من 4 مليارات دولار، بل إنّ الأرقام الحقيقية تُعدّ أكثر من المرصود رسمياً، وهو ما أكّده وزير المالية د. جبريل إبراهيم، بأنه خلال 2024م جرى تهريب أكثر من 48 طناً إلى دولة جارة (على الأرجح يقصد مصر). وبالاعتماد على هذه الأرقام الرسمية، فإنّ ما يُقارب 9 مليارات دولار (تعادل تقريباً ثلاثة أضعاف صادرات البلاد)، فُقدت من اقتصاد السودان خلال 2024م، لتذهب إلى جيوب أفراد وشبكات تعمل في الخفاء وتستفيد من حالة الفوضى والفراغ الأمني.
والأخطر أنّ 96.8% من الذهب الذي يُصدَّر رسمياً من السودان يتجه إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث يُعاد تكريره وتبييضه، قبل أن يُعاد تصديره إلى الأسواق العالمية. ورغم التصريحات الحكومية المتكرّرة عن نيّة تغيير وجهة الصادرات إلى دول أخرى مثل قطر، تبقى الإمارات هي المستفيد الأكبر من تجارة الذهب السوداني، في ظلّ محاكمات واتهامات مُتصاعدة بوجود علاقات غير شفّافة بين الإمارات والدعم السريع، التي تُسيطر على عدد من مناطق الإنتاج. وبدلاً من أن تعود هذه العائدات بالنفع على المواطن السوداني، يجري تدويرها ضمن شبكات تمويل الحرب وتعزيز ثروات قادة المليشيات وبعض المسؤولين الحكوميين المتورطين في هذا الاقتصاد الموازي.
في المقابل، تُظهِر الوثائق الرسمية أنّ الدولة حصلت فقط على 183 ألف دولار كإيرادات مُباشرة من صادرات الذهب خلال عام 2024، وهو مبلغ محدود للغاية مقارنة بالقيمة الإجمالية للصادرات الرسمية، التي بلغت 1.57 مليار دولار. هذا يعني أنّ ما وصل إلى خزانة الدولة لا يتعدّى 0.01% من العائدات الكلية.
لم يقتصر هذا التلاعب على الجانب الخارجي للتجارة، إنما يضرب في عمق الاقتصاد المحلي. وبينما تبلغ القيمة العالمية لجرام الذهب حوالي 100 دولار، يُصدَّر رسمياً من السودان بسعر حوالي 74 دولاراً للجرام، بسبب مزيج من الفساد، وسوء الإدارة، والتواطؤ مع التجّار. ويكشف هذا الفارق الكبير في الأسعار أنّ البلاد تخسر الجزء الأكبر من القيمة المُضافة للذهب، وهي الخسارة التي تُفاقم عجز الدولة عن تمويل المتأثّرين من الحرب والخدمات الأساسية أو حتى دفع أجور العاملين في القطاع العام.
في المقابل، تُظهِر الوثائق الرسمية أنّ الدولة حصلت فقط على 183 ألف دولار كإيرادات مُباشرة من صادرات الذهب خلال عام 2024، وهو مبلغ محدود للغاية مقارنة بالقيمة الإجمالية للصادرات الرسمية، التي بلغت 1.57 مليار دولار. هذا يعني أنّ ما وصل إلى خزانة الدولة لا يتعدّى 0.01% من العائدات الكلية، وهو رقم يُعبِّر عن الفشل الذريع في ضبط القطاع، لكنه كذلك مؤشر على تراجع مريع للدولة وتصاعد حجم النفوذ الذي تملكه مليشيات الذهب والتجّار المتحالفون معها، الذين باتوا يُسيطرون على الدّورة الكاملة للذهب، من التنقيب إلى التهريب، ومن التصدير إلى غسل الأموال.
وعلى أرض الواقع، ورغم محدودية المعلومات وغياب الأرقام، تعكس مناطق سيطرة الدعم السريع صورة أخرى: لقد باتت مناطق التعدين التقليدي والعشوائي فيها ساحات صراع متشابكة، حيث تفرض الدعم السريع سيطرتها على مواقع التعدين الرئيسة في دارفور وشمال كردفان وغربها. في تلك المناطق، يعمل مئات الآلاف من المُعدِّنين في ظروف قاسية. ويعتمد هؤلاء على وسائل بدائية وخطرة، في ظلّ غياب تامّ للرقابة أو الإشراف، ويُجبَر كثيرٌ منهم على دفع جبايات للمليشيات المختلفة من أجل السماح لهم بالعمل، ويُجبَرون كذلك على بيع عائدهم من الذهب بأسعار تصل إلى 35% من السعر العالمي، ما يُحوّلهم فعلياً إلى عمّال بالسُّخْرة، يُخاطرون بحياتهم من أجل لقمة العيش، بينما تُنهَب جهودهم لتمويل الحرب وتعزيز ثروات القادة العسكريين.
لكن لا تقتصر الكارثة على الفساد المالي فحسب؛ إنما تمتدّ إلى أزمة بيئية وصحية خطيرة؛ إذ إنّ المعدِّنين التقليديين والشركات العشوائية، يستخدمون مواد كيميائية سامة مثل الزئبق والثيوريا والسيانيد لفصل الذهب، دون أيّ تدريب أو وسائل حماية كافية للبيئة أو العاملين.
كافحت المجتمعات للحصول على نصيبها من عائدات الذهب، وقد حصلت نظرياً على 4% من جملة الإنتاج، في ما يسمّيه البعض «المسؤولية المجتمعية»، وهي نسبة محدودة بالمُقارنة مع نصيب الدولة الذي كان يبلغ 34% من جملة الإنتاج. وبدلاً من تحويل تلك الميزانيات إلى التنمية المحلية أو الاستجابة لآثار الحرب، فقد غابت الشفافية والأرقام عن سجلّات الحكومة، واكتفت تقاريرها غير المنشورة بالإشارة حصراً إلى دعم المجهود الحربي. إنّ تراجُع الشفافية وغياب الأرقام هو المدخل للفساد، ولا تعدو الحرب أن تكون ذريعةً لتبرير ذلك، فدعم عائدات الدولة يَكمُن في زيادة نصيبها من الإنتاج الكلّي وتعزيز سُلطتها على القطاع.
لكن لا تقتصر الكارثة على الفساد المالي فحسب؛ إنما تمتدّ إلى أزمة بيئية وصحية خطيرة؛ إذ إنّ المعدِّنين التقليديين والشركات العشوائية، يستخدمون مواد كيميائية سامة مثل الزئبق والثيوريا والسيانيد لفصل الذهب، دون أيّ تدريب أو وسائل حماية كافية للبيئة أو العاملين. تتسرّب هذه المواد إلى التربة والمياه الجوفية والمناطق المُحيطة، مُهدِّدةً البيئة والصحّة العامة على نطاق واسع، وعلى نحوٍ جعل كثيراً من الأراضي الزراعية والمراعي الطبيعية غير صالحة، وانتشرت الأمراض وزادت حالات الإجهاض وتشوُّه الأجنة. وتشير تقديرات عددٍ من الباحثين والجهات المختصّة، إلى أنّ عدداً من مناطق التعدين سوف تفقد صلاحيتها للحياة خلال سنوات محدودة، في ظل غياب شبه تامّ للرعاية الطبية أو أيّ شكل من أشكال التعويض أو الوقاية. ومع مرور الوقت، تتحوّل هذه المناطق إلى بؤر ملوّثة، ما يُفاقِم معاناة المجتمعات المحلية ويجعلها تدفع ثمن الحرب على نحوٍ مزدوج صحياً واقتصادياً.
في هذه الأثناء، تتضخّم ثروات النخب على نحوٍ غير مسبوق. لقد كشفت البيانات التفصيلية في التقرير، أنّ أرباح كبار التجّار المرتبطين بالحكومة والمليشيات المسلحة، قد ارتفعت من 350% إلى 500% خلال عام واحد فقط، هي فترة الحرب الأشدّ دموية في تاريخ السودان الحديث. وتُظهر الوثائق أنّ عملية تصدير صغيرة نسبياً – لا تتجاوز عشرة كيلوغرامات من الذهب – تدرّ أرباحاً تتراوح بين 160 إلى 200 ألف دولار، وهو ما يُعادل أو يزيد عن مجموع ما حصلت عليه الدولة السودانية من جميع صادرات الذهب البالغ 183 ألف دولار طوال عام كامل. في مشهد كهذا، لا يمكن الحديث عن تنمية أو إعادة إعمار أو حتى إصلاح اقتصادي، بل عن اقتصاد حرب كامل، يُعاد فيه تدوير الثروات لتعميق الصراع، لا للخروج منه.
إنّ الاكتفاء بتقديم صورة الحرب كما لو أنها لا تحوي سوى التقدّم أو التراجُع العسكري، لن يُخرج البلاد من هذه الأزمة. ومع هذا الحال، تصبح محاصرةُ شبكات الفساد والثراء الفاحش المستفيدة من الحرب، لتوجيه موارد البلاد نحو تحقيق مزيد من السيطرة الاقتصادية والصعود السياسي، واجباً لا يمكن تأجيله بدعاوى أي مخاطر، وإلا كان هذا في حدّ ذاته هزيمةً لأي محاولة للحفاظ على الدولة. والأكيد أنّ الصّمت على هذا الواقع يعني بالضرورة استمرارَ الحرب دون نهاية، وتعميقاً للجراح، وتمديداً لزمن المعاناة لملايين السودانيين.