
لأحمي ذهبي وذهب بناتي، طوّقتُ به جميع أجزاء جسمي وأخفيتُه، وجلستُ في المقعد الخلفي، مُدّعيةً أنني امرأة مُسنّة ومريضة، على أمل أن لا يلمسوني، أو يفتشوني، أو يقربوني
هذه شهادة امرأة سُئِلت عن الطريقة التي أخرجت بها ذهبها من الخرطوم. غادرت هذه المرأة الخرطوم بعد حوالي ثلاثة أسابيع من بداية الحرب، حينها كانت قوات الدعم السريع تُوْقف السيارات والحافلات الخارجة من المدينة، وتسرق ركّابها، وتُرهِبهم، وتقتلهم أحياناً.
لم تكتفِ هذه المرأة بحَمْل ذهبها فقط، إنما حملت ذهب بناتها أيضاً، مُعرّضة نفسها بذلك لمَخاطر كثيرة. تحدثت، وهي تتأمّل ذلك، عن عقودٍ من التضحية: «احتملتُ أربعين سنةً من الغربة في السعودية لأملك هذا الذهب». لم يكن الذهب عندها محض ثروة، إنما كان شهادةً على عملها وصمودها، لذلك كانت عازمةً على فعل كل ما يقتضيه الأمر لتحميه. وعندما وصلت أخيراً إلى المعبر المصري، قرّرت أن تَبقى في السودان مع معظم الذهب، وأن تمنح بعضه لبناتها المسافرات إلى مصر. «أعطيتهنّ ما يكفيهنّ وتركتُ الباقي معي»؛ لم تكن هذه المرأة مستعدّةً للمخاطرة بمُصادرة ذهبها في المعبر، وكان الحفاظ على ذهبها، لا السفر إلى مصر، هو أولويّتها القصوى.
لهذه القصة مثيلاتها العديدة. تحكي امرأةٌ أخرى عن سرقة وقعت لها قبل الحرب أفقدتها ذهبها كلّه. وبعد هذه الحادثة اشترت ما تيسّر لها من ذهب. تقول لـ «أتَـر»: «لو كنتُ خسرتُ هذا الذهب أيضاً لمتُّ كمَداً. حفظَتْ أختي هذا الذهب معها لتسعة أشهر، كانت تنام وهي تربطه حول جسمها، وحين تمكّنت من الوصول إلى مصر بسلام، كان هذا الذهب كله محطّماً، لكنني كنت سعيدةً بالحصول عليه بالطبع».
«قبل خروجنا، أصرَّ عليّ زوجي بأن أترك الذّهب، لكنني لم أُصغِ إليه. فلو خسرتُه لما استطعتُ تعويض قيمته من جديد. لقد ندمَت جميع النساء اللائي أعرفهنّ على أخذهنّ بآراء أزواجهنّ بتَرْك الذهب»، هكذا تحكي امرأة أخرى، مؤكّدةً أنّ ترْك ذهبها خلفها كان أمراً لا يمكن تصوّره. كانت هذه المرأة تعي أنّ نصيبها في الخسارة أكبر من نصيب زوجها، فربما يشتري الرجال الذهب، لكنهم لا يملكونه.
وتحكي امرأةٌ أخرى: «خرجنا أنا وزوجي من منزلنا متوجّهين صوب منزل أمي؛ حتى نسافر منه جميعنا معاً، ولم آخذ ذهبي، ولمّا عرفَت أمّي بذلك رفضت أن تسافر حتى نعود إلى منزلنا ونأخذه معنا. قضَيْنا هذه الرحلة بشقّ الأنفس؛ إذ كانت قوات الدعم السريع منتشرةً في منطقتنا بكثافة».
لا تُفهم المَخاطر التي تتكبّدها هؤلاء النساء على أحسن صورة عبر عدسة «الشَّجاعة» المستعملة عادةً، وإنما عبر النظر إلى المعرفة التي كَوَّنَّها عبر قرون عن أهمية الذهب في إعادة الإنتاج الاجتماعي، ومن الواضح أنّ ذلك ليس أمراً مشتركاً وموجوداً لدى كلّ نوعٍ اجتماعي، وإنما هو أمرٌ أموميّ بالخصوص.
فاجأ جحيم الحرب في الخرطوم الجميع حين نشوبها. حفظت بعض النساء ذهبهنّ في خزائن البنوك المنتشرة في المدينة، وخسر معظمهنّ هذا الذهب. وتمكّنَت نساءٌ أخريات من حمل الذهب معهنّ وهنّ خارجاتٌ من الخرطوم، ووصلن إلى برّ الأمان ومدخرات حياتهنّ محفوظة. بالنسبة لهؤلاء النساء، كان حفظ الذهب «إنجازهنّ الأكبر»، حبلَ نجاةٍ وسط أمواجٍ من الفوضى. بينما تَركت نساءٌ أُخريات ذهبَهنّ اعتقاداً منهنّ بأنّ الحرب ستكون مؤقّتة، ليعرفن لاحقاً أنّ الدعم السريع قد اجتاحت بيوتهنّ ونهبت كلّ ما فيها من ذهب.
ليست هذه الثروة المتوارثة ماديةً فحسب، إنما تحمل حكمةً، وحُبّاً، ووعوداً صامتة. على سبيل المثال، يحمل الذّهب الذي تهديه أمّ العروس إلى ابنتها قيمةً تتعدّى الهدية، إنه شكل من أشكال الحماية، وحاجزٌ من تقلّبات الحياة، وربما يكون درساً عن طرق النجاة أمام ما يحمله المستقبل، وأملاً في صمود جيل تالٍ من النساء.
وليَفهم المرء أهمية الذهب، يجب عليه أن يتمعَّن في ما تحمّلته النساء لحفظه، وفي معنى فقدانه بالنسبة إليهن. «لم أتوقع حدوث ذلك، لم أتوقع أن يسرقوا ذهبي هكذا، ولأكون صادقةً معك، لم أُرِد أن أخرج من منزلي أصلاً، ولم أخَف حتى أصبح المنزل خاوياً، وصار صوت الرصاص يقترب أكثر وأكثر»، هكذا حكت امرأة كانت تعيش في منطقة آمنةٍ نسبياً في أم درمان، التي ظلّت الحياة فيها عادية بعض الشيء خلال أول أيام الحرب، وشرحت قرارها بترك ذهبها في المنزل. وأضافت: «ظنَنتُ أنّ منازلنا ستكون أوفر أماناً من حمله في الطريق إلى مصر». بالنسبة لها، فإنّ الخسارة المالية مُعتبرة، لكن كان الأمر أكبر من ذلك، إنه بمثابة تدمير لحياتها، كأنها «تراجعت إلى الوراء» على نحوٍ ما.
هذا، بينما وقعت خسارة الذهب بوزن عاطفي أكبر على أخريات. تقول امرأة: «خسرَتْ أمّي ذهبها، وذهب المرحومات من خالاتي وجدّتي، لا أعرف مقدار هذا الذهب تحديداً، لكن لاحظتُ أنّ أمي لم تَعُد تهتمّ بشيء بعد أن حدَث ذلك. وحين وصلنا إلى مصر، كنتُ أحاول أن أُشركها في اختيار الشقّة والأثاث، وكانت تلك أشياء تحبّها عادةً، لكنها ما عادت تهتمّ بها إطلاقاً».
ليست هذه الثروة المتوارثة ماديةً فحسب، إنما تحمل حكمةً، وحُبّاً، ووعوداً صامتة. على سبيل المثال، يحمل الذّهب الذي تهديه أمّ العروس إلى ابنتها قيمةً تتعدّى الهدية، إنه شكل من أشكال الحماية، وحاجزٌ من تقلّبات الحياة، وربما يكون درساً عن طرق النجاة أمام ما يحمله المستقبل، وأملاً في صمود جيل تالٍ من النساء.
«عندما تزوّجتُ، شدّدَت عليّ أمي بأن أرتدي من الذهب الذي أهدَته إلي عائلتي في أول لقاء مع نسابتي (أصهاري)». أرادَت الأمّ هنا أن تُرسِّخ مكانة ابنتها أمام نسَابتها، وهي مكانة ترتكز على دعم أسرة الفتاة لابنتها، وتُبنى في أيام زواجها الأولى.
ربما لم تترتّب على سرقة الذهب صعوبات مالية بالنسبة إلى بعض النساء، خصوصاً ميسورات الحال في الخرطوم، والأرجح أنهنّ جزءٌ من طبقةٍ تستطيع الحفاظ على نمطِ حياةٍ يشبه نمط حياتهنَّ القديم دون هذا الذهب؛ لكنه يمثل شيئاً أكبر من المال؛ ففي فقدانه فقدانٌ لبرهان على الوجود، وعلى الامتثال لسنوات لأدوار جندرية مُحدَّدة. أخفت خسارة الذهب تضحيات العديد من النساء، وجعلت سنوات من التحمل تبدو، على نحو ما، كما لو أنها بلا قيمة.
يؤدِّي الذّهب دَوراً مُعتبراً في تعزيز القوة والسيطرة، وفي إعادة إنتاجهما، داخل العائلة، وفي المجتمع الكبير. وتبعات خسارته بالنسبة للنساء ممتدّة. لقد فقدت بعضهن أصلاً أساسياً، ما أفقدهنّ الأمان الماليّ. بينما فقدت نساءٌ أخريات النفوذ الاجتماعي والقوة التفاوضية داخل زيجاتهنّ. وللمحظوظات اللائي تمكَّنَّ من حفظه، كان الذهبُ الوسيلةَ الوحيدةَ للصمود أمام الحياة التي أعقبت النزوح.
سافر آلاف السودانيين إلى الإمارات بحثاً عن فرص عملٍ بعد الحرب. وواجهت هذه المرأة قراراً عملياً: إما أن تستخدم ذهبها لتسافر كغيرها، أو تستثمره في تأمين وضع زوجها القانوني بما يُمكّنه من العمل (عبر الإقامة)، واختارت الخيار الثاني، مانحةً أولويةً أكبر لاستعادة قدرة زوجها على العمل وتوفير حياة كريمة لأسرتها
قالت امرأة منهنّ: «ما كنتُ لأقدر على إدخال أطفالي المدرسة لولا الذهب»؛ وتحكي أخرى: «قرّرتُ أن أبقى في منزلي، كانت منطقتنا تحت سيطرة الجيش، وكانت الحياة فيها أكثر طبيعيةً من مناطقَ أخرى، لكنها ظلّت صعبة إذ خسر زوجي وظيفته. باعت بعض النساء ذهبهن ليتمكّنَّ من السفر، أما أنا، فقد بعتُ بعضه لأتحصّل على إقامةٍ لزوجي».
لقد سافر آلاف السودانيين إلى الإمارات بحثاً عن فرص عملٍ بعد الحرب. وواجهت هذه المرأة قراراً عملياً: إما أن تستخدم ذهبها لتسافر كغيرها، أو تستثمره في تأمين وضع زوجها القانوني بما يُمكّنه من العمل (عبر الإقامة)، واختارت الخيار الثاني، مانحةً أولويةً أكبر لاستعادة قدرة زوجها على العمل وتوفير حياة كريمة لأسرتها. أصبح ذهبُها صمامَ الأمان الذي حافظ على دَور زوجها عاملاً، لذلك كان بيعُ الذهب أملَ أسرتها الوحيد، كما رأته، في أن تحفظ بقاءها على المدى الطويل.
كذلك، لا تقتصر أهمّية الذهب على من يتحمّلون مسؤولياتٍ مالية ويُعيلون أشخاصاً آخرين. في الحقيقة، تواجه النساء العازبات اللائي ليس لديهن ذرّيةً بالغةً تعتني بهن، ضغوطاً أكبر من غيرهن. شاركت إحدى النساء حكاية جارتها مع «أتر»، وهي امرأة أنفقت حياتها في الخدمة المدنية وخسرت كلّ شيء حين اجتياح الدعم السريع منزلها: «خسرَت جارتي كلّ ذهبها، فقد تركته في منزلها. وأخبرها أهل الحيّ أن جنود الدعم السريع قد أتوا بأجهزة للكشف عن الذهب وسرقوه كلّه. ومنذ ذلك اليوم، أحسّ بأنها قد جُنّت بعض الشيء». لقد كان الذهب الذي جمعته هذه المرأة طوال حياتها مصدرَ حمايتها، وبإمكانه تخفيف وطأة عدم الأمان الوظيفي والعائلي حتى حين، وربما يستمرّ كذلك حتى بعد الحرب.
تعود أهمية الذهب في السودان، وعدة دول أخرى، إلى قرونٍ سبقت تكوين الدول الحديثة. وتحوّلت على الأرجح خلال الزمن، وتقلّبت مع تغير الظروف. لكن ظلّ دَور الذهب يزداد أهمية وضرورةً في السودان مع انسحاب الدولة عن تقديم الخدمات العامة.
أجبر تفشّي قوى السوق، وتسليع الحياة، مجتمعاتٍ ونساءً، على وجه التحديد، على تطوير ممارسات مادية وثقافية تسدُّ هذا الفراغ. عادة ما تعزِّز هذه الممارسات المسؤوليات الجندرية، إذ إنّ امتلاك مزيد من الذهب يمنح النساء إحساساً بالقوة على نحوٍ ما، ويدفعهنّ لإعادة إنتاج نمط معيّن من العلاقات داخل أسرهن.
لا يمكن صرف النظر عن العنف المرتبط باستخراج الذهب، ودَوره في إيقاد نار الحرب، لكن الذهب أكثر من محض سلعةٍ للتراكم، إنه ملتحمٌ بنسيج البقاء الأسري والعائلي، يَحفظ عقدة التجارة، والزواج، والإنجاب، وغيرها من الممارسات الاجتماعية التي تصون ترابط المجتمعات
أدّى الذهبُ دَوراً أكبر في الواقع الجديد الذي تلا نشوب الحرب، خاصة مع الضغوط المالية والأمنية التي أحدثتها. فقد أصبح طريقةً للتعامل مع الهشاشة التي خلَقتها الحرب، كما أن دول الجوار التي لجأت إليها الأسر، تواجه ظروفاً مشابهةً في ما يلي الخصخصة وشحّ تمويل الخدمات العامة كالإسكان والصحة والتعليم.
لم يعد الذهب محض زينة نسائية أو رمزاً للتقاليد، إنما أداةً عمليةً للبقاء، ووسيلةً للتكيُّف مع القوى المحرِّكة لسوق مضطرب وغير آمن، إضافة إلى الضغوط التي يخلقها هذا السوق. لذلك، فإن إعادة إحيائه في حياة الناس ليست مجرد مسألة متعلّقة بحفظ الموروث الثقافي، إنما بالتكيف والصمود في وجه إهمالٍ منظّم.
لقد أصبح الذهب «مسألة مهمّة» في السودان في السنوات الأخيرة، ولذلك سببٌ وجيه.
خسر السودان كثيراً من احتياطاته النفطية حين نال جنوب السودان استقلاله، وكان من المتوقّع أن يصبح الذهبُ المصدرَ الجديد للعملة الصعبة. لكنّ الذهب سلعة مختلفة تماماً عن النفط؛ إذ يصعب على الدولة التحكّم به كلياً بسبب انتشاره الجغرافي، واحتياج استخراجه إلى معرفة متخصّصة، إضافةً إلى التحدّيات المرتبطة بتتبُّع كمياته.
ونمَتْ عسكرة قطاع الذهب، وتهريبه، يداً بيدٍ مع نموّ صادراته. وأضحى حوالي 90% من إنتاج الذهب تحت سيطرة الجماعات المسلّحة، خصوصاً الدعم السريع. إذ سيطرت الشركات المرتبطة بالدعم السريع على القطاع، مُهرّبةً جميع ذهب السودان تقريباً إلى الإمارات.
أصبح دَور الإمارات في الحرب «حقيقة معروفة». وما كان ازدهار الإمارات لتُضحي أكبر سوق للذهب ليكون، لولا الاستخراج الذي يجري في السودان. الاستخراج الذي لم توقفه الحرب، إنما سهَّلته.
دفع ذلك العديد من الناشطين إلى الدعوة لمقاطعة الإمارات و«ذهبها». لكنّ هذه الدعوات، رغم منطقيّتها ومبرّراتها السليمة، تُهمِل حقيقةً جوهرية، هي مركزية الذهب في إعادة الإنتاج الاجتماعي.
لا يمكن صرف النظر عن العنف المرتبط باستخراج الذهب، ودَوره في إيقاد نار الحرب، لكن الذهب أكثر من محض سلعةٍ للتراكم، إنه ملتحمٌ بنسيج البقاء الأسري والعائلي، يَحفظ عقدة التجارة، والزواج، والإنجاب، وغيرها من الممارسات الاجتماعية التي تصون ترابط المجتمعات. عادةً ما يَختزل نقدُ الداعين إلى التحديث سعيَ النساء نحو الذهب إلى الخيلاء والعادات التي عفى عليها الزمن، ويُصوِّرونه ممارسةً يجب أن تُرفض باسم التقدّم. ولكن للذهب دَورٌ عميقٌ في إبقاء وحفظ الحياة نفسها، فهو ليس محض شكل للثراء، لكنه ركيزة لإعادة الإنتاج الاجتماعي، المفهوم الذي يكشف الأنظمة الخفيّة التي تدعم قوى العمل، سواءٌ أكان ذلك يومياً أم عابراً للأجيال.
انهارت الهياكل التي تعزّز من نجاة الأسر والمجتمعات حين اشتعال الحرب، وتوقفت معايش، ما دفع النساء إلى اللجوء إلى نفس الأنظمة التي ترفضها السرديات الشائعة. وأصبح الذهب حبل نجاة، تبيعُه النساء مقابل الفرار من جحيم الحرب، أو الوصول إلى أسواق عمل جديدة لهنّ ولأقاربهن الذكور.
في نار هذا الصراع حول النجاة، تجلّى عمل النساء الخفي، وحكمتهنّ، وصمودهنّ بوضوح، إثباتاً لأنّ الذهب ليس محض معدن، إنما ركيزةٌ للنظام الاجتماعي السوداني.