أتر

الحياة والثقافة ودوافع السّرد: حتى يَبلُغ النقدُ غاياته

عرض كتاب: «رواية ما بعد الاستعمار العربية: مواجهة التذبذب الملتبس »، د. محسن جاسم الموسوي (مؤلّف)، د. موسى الحالول (مترجم). مشروع كلمة للترجمة، أبوظبي: 2022. 432 صفحة.

في تمهيده لكتابه هذا، كتَب الموسوي أنّه يتناول «روايات عربيّة طويلة يتجلّى فيها وعيٌ (شديدٌ) بالحياة والثقافة العربيّتين»، وأنه يَدرُس الرواية العربية الحديثة، في مرحلة ما بعد نجيب محفوظ، مستفيداً من بعض الدراسات والقراءات السابقة، لكنه يُحاول تجاوُزها في تعامُلها مع قضايا ما بعد الاستعمار التي تتعلّق بتشكيل الهويّة والدولة القوميّة الحديثة والفرديّة والقوميّة. يقول المؤلِّف: «تطمح قراءاتي هذه إلى وضع السّرد العربي في المسار السّائد للأدب العالمي. (…) وتقوم فكرة الكتاب الأساسيّة على الاهتمام بالحياة والثقافة ودوافع السّرد ونشأة الاهتمام بالحرب والتغرّب عن الأوطان والسياسة العالميّة».

من هنا ينطلق المؤلِّف – بهواجس المُساءَلة والمراجعة – في مقارَبة المنجز السرديّ ما بعد تجربة محفوظ، بحسب تحقيبه، بدءاً من نصّ الجزائرية آسيا جبّار «ظلّ السُّلطانة»، حيث يرنّ الصوت النسويّ العميق: «امرأةٌ يخفي تظاهرُها بالإذعان كبرياءً وطنيةً ومقاومةً بعيدةَ الغور». هذه هي حفيدة شهرزاد، وبأسلوبها السرديّ الذي هو «تلاعُبٌ مُتعمَّد بالوسائل لتأجيل ممارسة الاستبداد (…) يُؤسّس لثقافةٍ مضادّةٍ ذاتِ تنوُّع وثراء كبيرين».

هكذا، وفي عشرة فصول، إضافةً إلى عتبات تمهيديّة، و «بدلاً من خاتمة»، تناوَل المؤلِّف قدراً معتبراً من الروايات التي استوفت، في تقديره، صفة التغايُر والاختلاف. وبأدواتٍ نافذةٍ من الدراسات ما بعد الكولونيالية، عمل على إضاءة الخارطة النصّية لكلّ رواية، وصولاً إلى استراتيجيات تأويليّة لفهم تلك النصوص وشرعيّة مُساءَلتها: من سؤال اللّغة وكيفيّة تضفيرها للمخيّلة السردية والذاكرة، إلى كشف مرجعيّة المتخّيل، والأهم من ذلك تَلازُم اللغة والهوية والتغيير في سياقات ما بعد كولونيالية، وارتباط التاريخيّ والمعرفيّ بالوعي السياسيّ، أو الوعي الطبقيّ، بتعبير جورج لوكاش. وشاهِدُ المؤلِّف على ذلك، في سياقٍ لسانيٍّ محض، هو الروائي والشاعر الكردي سليم بركات الذي بيَّن في رواياته «أنّ اللّغة… يمكن أن تتدفَّق بغزارة وأناقة للتعاطي مع تعقيد الواقع والأسطورة».

حكى الكاتب في الفصل الأوّل همومَه وانشغالاته بـ «انفراط العقد المقدَّس»؛ عنوان أحد كتبه عن الرواية بعد نجيب محفوظ، وكيف أنّه وصل إلى حقيقةٍ نقديّةٍ مفادها: «تمارِسُ رواية ما بعد الاستعمار تمريناً إيجابياً ما بعد بنيويّ لنزع الهالة من الأيديولوجيا وخطاب التجانُس (…) وهذا التمرين يرى أنّ ما بعد الاستعمار مهمّ لأيّ معرفة جدية بالثقافة العربية».

في الفصل الثاني «شهرزاد في عصرنا»، قراءةٌ لمنجَز السرد بأفق استعادة شهرزاد، إذ «تندرج هذه القراءة في فهمٍ ما بعد حداثيّ وما بعد استعماريّ للفصل غير المنطقيّ بين الأدبيّ والفولكلوريّ والشعبيّ»، وذلك بَربْط تطوُّر الرواية الحديثة بتراثها العظيم المتمثّل في حكايات «ألف ليلة وليلة». بدأ الفصل بإضاءة رحلة الليالي العربية بين الشرق والغرب وتلقّيها. ومن ثمّ مضى إلى «الكناية الشهرزاديّة» وصِلَتها بمسألة سرديّات الأمم، وكيف استُعيد نصّ الليالي، بأفعالٍ مُحايِثة متعدِّدة ومتنوّعة، كنصّ خفيّ أو غائب في عدد من الكتابات النسويّة المعاصرة، التي حفلت بما مفادُه أنّ العديد من النصوص قد «روّج لها شهريار… بعد أن تعلَّم من شهرزاد فنون الحكي وقصّ الأخبار».

ومن بَعد، يُجري المؤلِّف مراجعاتٍ ومقارباتٍ لعددٍ من النصوص، موضحاً كيف أنّ شبح شهرزاد قد ظلّ مُخيِّماً على العديد منها حتى في سرد «سلالة شهريار»، بعبارة تزڤيتان تودوروڤ في كتابه «شعريّة السّرد»، فقد وقَع العديد منهم في دائرة سحر الليالي، وأنجزوا نصوصاً تعكس تراث الأمّة. وبيَّن الموسوي كثيراً من عناصر التناصّ بين تلك النصوص والنصّ المركزيّ والمؤسِّس لتقنيات السّرد؛ «ألف ليلة وليلة». وختَم الفصل بقوله: «لجأت رواية ما بعد الاستعمار العربية إلى هذه الحكايات، لا بوصفها مرحلة تعكس صورة الحداثة كما أنتجها الغرب فحسب، بل أيضاً لاستعادة وَجاهتها وحيويتها بعد سنوات من التهميش والإهمال».

يتناول الفصل الثالث روايات إبراهيم الكوني ورشيد بوجدرة وأميل حبيبي، كأمثلة للرواية الحضرية التي اهتمّت في متونها بالسياسيّ والاجتماعي. ويَطرُق الفصل الرابع «ميادين التحدّي في العواصم الغربية»، وكيف أنّ هذا التحدّي «يُعدّ سِمةً ما بعد استعمارية إلى حدّ بعيد، لكونها رحلات إلى أعماق الذات». أما الفصل الخامس فقد كرّسه للكتابة السردية النسويّة، وكيفية تشكّل الهويات الأنثويّة، بمقاربةٍ لأعمال كلّ من سلوى بكر وأحلام مستغانمي. ولم يقتصر الفصل على الصوت النسويّ في الكتابة، فقد تناول أيضاً رشيد بو جدرة وواسيني الأعرج: اشتغالات الجسد، مثلما في أمثولة الحجاب وما تَفجَّر عنها من لغطٍ وسجال في المحيط العربي. في الفصل السادس الذي جاء بعنوان «أصوات معارضة: مارقون ومتمرّدون وقدّيسون»، تناوَل المؤلِّف قضايا التهميش والقمع واشتغالات السُّلطة في بنية المجتمع وتمفصُلاتها وعنف الدولة المارقة. أعقب ذلك ما سمّاه الكاتب سردية المكان والزمان السردي في الفصلين السابع والثامن، وذلك لأنّ «دراسة المكان والزمان من ضمن التكوين الأساسي لما بعد الاستعمار تتشكّل من هذين العنصرين».

سعَى المؤلِّف، في الفصل التاسع، إلى كشف شعرية القصّ العربي وألاعيبه ما بعد الحداثية «وما يضيفه إلى أدبٍ ما بعد استعماري من مكمّل جماليّ». في الفصل العاشر، حول استعادة مملكة المَجاز في «ألف ليلة وليلة»؛ يعيد المؤلِّف قراءة نجيب محفوظ في نصِّه «ليالي ألف ليلة»، ويوضح كيف «يستمدّ تعاطي محفوظ مع حكايات ألف ليلة وليلة سِمَتَه ما بعد الاستعمارية من ثلاث زوايا: استعادة ما هو أصيل وإدانة السُّلطة القمعية، والانتقام للمحرومين، وكشف لألاعيب الجسد».

ختم المؤلّف كتابه قائلاً: «رواية ما بعد الاستعمار تُخضِع السُّلطة للمُساءلة (…) وتستنطق مكائد القهر، وتتحدّى السُّلطة بكلِّ أشكالها، وتُميط اللثام عن الدكتاتوريين».

لقد أكّد الموسوي في هذا الكتاب على «الحقيقة السرديّة» في فهم النص السرديّ وتأويله، وعلى أهمية المُساءَلة والمراجعة لهدير السّرد المتواتر في نهايات القرن وبدايات الألفيّة الثالثة، حتى يَبلُغ النقد غاياته في الوصول إلى تماسُكٍ إبستيمولوجيّ، وإنجازِ معرفةٍ بالنصوص وحولها، وتماسُكٍ نَصِّيٍّ بتحقُّق تأويل النصوص وتفسيرها.

المؤلف:

محسن جاسم الموسوي الذي وُلد عام 1944م بالعراق، هو كاتب، وروائي، وباحث وناقد على المستوى الدولي، وأستاذ الأدب العربي في جامعة كولومبيا. نشر 28 كتاباً باللغتين العربية والإنجليزية، في الأدب العربي والاستشراق. وله عدة دراسات نُشرت في الدّوريات والمجلات المتخصّصة في العديد من الأقطار العربية.

عمل أستاذاً جامعياً بكلّ من الشارقة وصنعاء وعمّان وتونس وبغداد؛ كما شغل إدارة آفاق العربية والشؤون الثقافية طيلة الثمانينيات في العراق.

حصل الموسوي على دكتوراة تمييز عام 1978م بجامعة الهاوزي الكندية عن «ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنجليزي»، وهو رئيس رابطة نّقاد الأدب في العراق من عام 1982م إلى عام 1985م، ورئيس مجلس إدارة الشؤون الثقافية لإنتاج الكتب والترجمة والمجلات الثقافية، ورئيس تحرير دورية الاستشراق من عام 1983م إلى عام 1990م، ورئيس تحرير مجلة «الأدب العربي» الصادرة عن Brill بالإنجليزية منذ سنة 2002م؛ وعضو MESA للدراسات الشرق أوسطية في أريزونا.

Scroll to Top