
في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، أصدر بنك السودان المركزي أوّل موجز إحصائي عن التجارة الخارجية منذ بدء الحرب. يعطي مقال محمد الكامل لمحةً ممتازةً عن التجارة في زمن الحرب. أما هذا المقال فيُرجع البصر إلى العلاقة بين صادرات السودان وحروبه خلال العقدين المُنصرمين.
في عقد التسعينيات، جاءت حروب جنوب السودان وكردفان والنيل الأزرق في وقتِ تغيُّراتٍ عظيمةٍ في تجارة الصادر. في بداية العقد شكَّل القطن حوالي نصف الصادرات جملةً، كما فعَل في معظم عقدَي السبعينيات والثمانينيات.

البنك الدولي (2003) مذكرة اقتصادية قُطرية، الملحق الإحصائي، صفحة 47
كان معظم القطن يُنتَج في الجزيرة؛ مثلّث الأرض جنوبيّ الخرطوم، ما عَنَى أنّ معظم إنتاج الصادر كان في موقع قريب من مركز الدولة. تراجعت أهمية القطن بين عامي 1990 و1998، فأضحت الماشية والسمسم أهمّ. تزامَن تدهور أسعار القطن العالمية مع تصاعدٍ في طلب الماشية من المملكة العربية السعودية. خلال هذه العملية، تباعَد التنظيم الجغرافي لتجارة الصادر في السودان عن المركز الجغرافي للدولة. على الرغم من أنّ إنتاج الماشية يأتي من جميع أنحاء البلاد، إلا أنّ كثيراً من مجموعات الرُّعاة في غرب السودان بدأت تؤدّي دَوراً أكبر في تجارة الصادر.

خريطة لتوزيع الخراف في السودان 1947 توضح أهمية الحيوانات في الحياة السودانية. أرشيف السودان- جامعة دُرم
بنهاية التسعينيات، حوّل النفطُ تجارةَ الصادر في السودان. وخلال العقد التالي هيمَن النفط تماماً على الصادرات، بينما ساهم السمسم والماشية والقطن بنِسَبٍ هامشية في جملة قيمة الصادر. كذلك غيَّر النفط التنظيم الجغرافي لوسائل الإنتاج. أضحت معظم الثروة المُصدَّرة تجيء من حفنة من المراعي الطينية في جنوب السودان. طردت حكومة الخرطوم مجموعات الرعاة-المزارعين التي كانت تقطن هذه المراعي خارجاً بإطلاقها العنان لمليشيات جديدة.
تنحدر مليشيات ولاية الوحدة من فروعٍ من مجموعات النوير والبقّارة التي تتقاسم الثقافات وسبل العيش الرعوية ذاتها مع الناس الذين تطهِّر تلك المليشيات أراضيهم. حرَّضت حكومة الخرطوم الجماعات الرعويّة ضدّ بعضها البعض، وأشعلت حرباً بين الجيران ما زالت تُخاض في ولاية الوحدة حتى يومنا هذا. لكنّ الحكومة صنعت مليشيات من حزبها الحاكم أيضاً، مليشيات الدفاع الشعبي، ومن شبكات المُوالين لكبار قادة النظام. أتت معظم شرطة النفط من مروي، الولاية الشمالية، مسقط رأس وزير النفط ورئيس جهاز الأمن [عوض الجاز].
كان لنظام المليشيات هذا، والمُؤسَّس حول جيوب الموارد الطبيعية، دَورٌ حاسمٌ في التحوّل من اقتصاد تصدير القطن إلى أسواق عالمية جديدة وأعلى طلباً، وإلى نظام عالمي مبنيّ على قوانين التجارة الدولية الحرة. تُوْصَف هذه المليشيات أحياناً بأنها «قبَلية» و «إسلامية»، لكن الأصحّ وصفها بالمليشيات النيوليبرالية
كان لنظام المليشيات هذا، والمُؤسَّس حول جيوب الموارد الطبيعية، دَورٌ حاسمٌ في التحوّل من اقتصاد تصدير القطن إلى أسواق عالمية جديدة وأعلى طلباً، وإلى نظام عالمي مبنيّ على قوانين التجارة الدولية الحرة. تُوْصَف هذه المليشيات أحياناً بأنها «قبَلية» و «إسلامية»، لكن الأصحّ وصفها بالمليشيات النيوليبرالية، المليشيات التي ساعدت نظم الإنتاج في السودان على التحوّل من مَزارع القطن المنظَّمة حكومياً والتي وُرِثت من الحقبة الاستعمارية، نحو نظام موسَّع ومخصخص ومحرَّر لإنتاج الثروة، قادر على التجاوب أسرع مع إشارات الأسواق العالمية.
أُلغِيَت جميع الخدمات الاجتماعيّة الحكوميّة في المناطق الأفقر، وأخضَعَ بطشُ المليشيات كلَّ معارضةٍ تسبَّبت بها خصخصة المدارس والمراكز الصحية، وتدمير برامج التوسُّع الزراعي. قاد الجيشُ نسخة الخصخصة السودانية، وكان النظام الأمني هو أوّل ما خُصْخِص. ساعد هذا في إبداع إمكانات جديدة للنمو الاقتصادي والعنف الاجتماعي في السودان. خلق النفط اقتصاد صادرات جديداً بقيمة مليارات الدولارات، مُهمِّشاً بذلك جميع قطاعات الصادر الأخرى حتى استقلال جنوب السودان في 2011. حينها تناقصت صادرات النفط تناقصاً حادّاً، وبدأ بحث الحكومة عن مصادر دخلٍ أُخرى.

رسم بياني: صادرات النفط (باللون الأخضر) وجملة الصادرات (باللون الأزرق) 2004-2024 بآلاف الدولارات. المصدر: بنك السودان المركزي، الموجز الإحصائي للتجارة الخارجية.
احتاجت الحكومة إلى مصادر دخل أُخرى، لأنّ طَفرة النفط ولّدت ارتفاعاً هائلاً في الواردات. أنفَقَ السودان جميع عائدات تصديره تقريباً على أصناف جديدة من الاستهلاك، ما جعل قيمة الوارد والصادر متماثلتين تقريباً.

ميزان المدفوعات -السودان، 2004-2024، بمليارات الدولارات. المصدر: بنك السودان المركزي، الموجز الإحصائي للتجارة الخارجية.
عندما استقلّ جنوب السودان، فقَدَ السودان ثُلث أراضيه، وخُمس سُكّانه، ومعظم احتياطاته النفطية. انهارت الصادرات. لكن الواردات القَيّمة بقيت في أعلى المستوياتٍ لعقد آتٍ. يشير هذان العاملان، الصادرات المتضائلة على نحو فجائيّ والواردات الثابتة، إلى أنّ نظام المليشيا النيوليبرالية استطاع إزاحة حيّز الإنتاج بعيداً من وسط السودان، لكنه لم يُزِح حيز الاستهلاك بعيداً من مركز الدولة.
لم يَعُد أيُّ قدر من الثروة، التي استُخلصت من الموارد الطبيعية في الداخل الجنوبي، بالنفع على الناس الذين يقطنون في تلك الأراضي. ثم احتاجت حكومة الخرطوم إلى صادرات جديدة حتى تستمر في تمويل هذه المستويات الاستهلاكية.
بين 2012 و2022، ارتفعت واردات السودان أعلى من مستويات فترة الازدهار النفطي، إلى حوالي العشرة مليارات دولار سنوياً. وفي الفترة ذاتها، لبثت الصادرات في مستوى ثابت عند حوالي أربعة مليارات دولار سنوياً. زاد هذا التبايُن من الضغط على الثروة المُصدَّرة. ومرة أُخرى، اقتضى الأمرُ إعادةَ تنظيمٍ جغرافيّ للإنتاج، ونظام مليشيا جديد.
في العقد الذي تلى 2011، شكَّلت أربع فئات من الصادر أكثر من 90% من عائداته: المعادن (في الغالب الذهب)، المحاصيل (في الغالب السمسم والفول السوداني)، المنتجات الحيوانية (في الغالب الخراف الحية)، والمنتجات البترولية.

صادرات السودان الرئيسية، 2012-2024، بآلاف الدولارات. المصدر: بنك السودان المركزي، الموجز الإحصائي للتجارة الخارجية.
تأتي غالب المنتجات البترولية من جنوب السودان وغرب كردفان، أما الخراف والفول السوداني فيأتي أغلبها من الغرب، والذهب يأتي من مناطق نائية في البلاد مع كمّيات مُقدّرة من الشمال والشرق ودارفور. وحده السمسم يأتي من مناطق البلاد الوسطى (تنتج دارفور سمسماً أيضاً، لكنه أحمر يُعصَر زيتاً للاستخدام المحلي). أصبح إنتاج الصادر موزَّعاً في القطر كله.
نظام الميليشيا، الذي بدأ في جنوب السودان، جرى استنساخه في دارفور خلال التمرّد الذي نشط هناك منذ بداية القرن الحادي والعشرين حتى 2016. خلال تلك السنوات المضطربة، تولّت المليشيات الحكم واستخراج الموارد في الأرياف.
قاد محمد حمدان دَقَلو «حميدتي»، الذي كان تاجر ماشية في ما مضى، مليشيا عُرفت لاحقاً بقوات الدعم السريع (RSF) وقد هزمت معظم المتمرّدين في السودان بحلول 2016. تعطينا مطبوعة باللغة الإنجليزية أصدرتها قوات الدعم السريع في 2019 بعنوان «نجاح في عمل قوات الدعم السريع» فكرةً عن كيف تنتزع قوات الدعم السريع الفائض من مزارعي دارفور.
الفصل الخامس: تأمين الموسم الزراعي في دارفور
في 2019، وبمبادرة من محمد حمدان دقلو، أضحى ضمان سلامة الموسم الزراعي في دارفور أحد أولويات قوات الدعم السريع. لتحقيق هذه المهمة، شكّلت قوات الدعم السريع نقاط تفتيش وباشرت العمل. تمركزت النقاط في المسارات الرئيسية للرُّحل. انتظمت 34 نقطة في شمال دارفور، و42 في جنوب دارفور، و15 في وسط دارفور، و19 في غرب دارفور، و12 في شرق دارفور. بالإضافة لذلك جابت دوريات التفتيش التابعة لقوات الدعم السريع مناطق النزاع الرئيسية بلا انقطاع. خضع جميع عناصر قوات الدعم السريع الذين شاركوا في هذه المهمة لتدريب متخصّص في حلّ النزاعات. وضمّت الحملة 2500 جندي من قوات الدعم السريع.
كان دقلو ذا بأس شديد في قدرته على استخلاص الفائض من المناطق النائية، لكنّه سيطر في الوقت ذاته على إنتاج الذهب، وبحلول 2021 أصبح المساهم الأكبر في بنكي الثروة الحيوانية والخليج.
كذلك تحكّمت القوات المسلحة على نحو مباشر في الإنتاج الحيواني وإنتاج المحاصيل عبر شركات تابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية.
حاولت الحكومة الانتقالية التي نُصّبت بعد ثورة 2019 تفكيك هذه الشركات، وقادت محاولة إنهاء السيطرة العسكرية الخاصة على الموارد الطبيعية إلى ثورة 2021 المضادّة [انقلاب 25 أكتوبر 2021] التي قادت بدَورها إلى حرب 2023.
أنهت هذه الحربُ العجزَ في الميزان التجاري السوداني. انخفضت الواردات التي كان معظمها يُستهلَك في العاصمة وحولها، لأن العاصمة نفسها أحرقها لهيب الحرب. لدى السودان الآن أقلّ عجز تجاري خلال عشرين عاماً: أصبحت قيمة الواردات 4.9 مليار دولار، والصادرات 3.1 مليار دولار، والعجز التجاري 1.8 مليار دولار. شكّلت الأغذية، وبالدرجة الأولى القمح والدقيق والسكر، ثُلث الواردات، وشكّل الوقود خُمسها.
لكن على الرغم من تقلّص الواردات، بقيت الصادرات ثابتة تقريباً: خلال السنوات العشر الماضية تذبذبت قيمة الصادر بين ثلاثة وخمسة مليارات دولار، وكانت سَنَتَا الحرب 2023 و2024 أقرب للنهاية الصّغرى لهذا المدى. في 2024 شكَّل الذهب حوالي نصف قيمة الصادرات؛ والمحاصيل حوالي الثُلث، والماشية حوالي السُّدس.

بنك السودان المركزي- الموجز الإحصائي للتجارة الخارجية (2024)، ص 6
هناك طريقتان لتناول هذه البيانات. الأولى أنْ نقول إنّ هذه البيانات تمرين في التضليل. فأغلب الظنّ أنَّ البيانات الجمركية التي تستند إليها أرقام البنك المركزي فشلت في حصر أغلب صادرات الذهب، ذلك لأنّ أكثر تجارة الذهب يسيطر عليها متنفّذون في قطاع الأمن بإمكانهم تفادي الرسوم الجمركية.
تستثني بيانات الجمارك أيضاً مستوردات الأسلحة، التي تضمنت خلال السنتين الماضيتين الذخيرة، والأسلحة الخفيفة، والمركبات الخفيفة، والمُسيَّرات وأجهزة تشويشها. حاجَج ممثل إحدى شركات تصدير المنتجات الزراعية بأنّ أرقام الصادرات الزراعية تعوزها المصداقية. كيف لـ 358,844 طن متري من الفول السوداني ومائة ألف شاحنة هينو رينجر أن تُنقَل من مناطق كدارفور وكردفان إلى بورتسودان؟ كيف يمكن لطنّ من الفول أن يُشترى ويُنقَل كل تلك المسافة بمتوسط تكلفة 816 دولاراً للطن المتري، وهو نصف السعر العالمي؟ كيف أمكن نقل 3,152,350 رأسٍ من الخراف من الداخل إلى الساحل وإلى الحدود المصرية، وهو رقم أعلى من ضِعْف الرقم الذي صُدِّر في 2022 قبل الحرب.

بنك السودان المركزي- الموجز الإحصائي للتجارة الخارجية (2024)، ص9
التفسير الممكن الثاني أشّد قتامة. إنّ نظام المليشيات السوداني لاستخلاص ثروات الأرياف يستطيع الاستمرار فاعلاً خلال فترة حرب شاملة وانهيار اقتصادي واجتماعي كُلّي؛ لأنّ معدَّل أرباحه يعتمد مبدئياً على العنف، وليس على الأسواق ولا على نظام إنتاجٍ مستقرّ. وليس مفاجئاً إذن أن تتقلّص الواردات، إنما تكمن المفاجأة في بيانات التجارة بأنّ الصادرات قد بقيت عاليةً خلال الحرب.
كثيراً ما يُقدَّم السودان بوصفه بلداً متخلِّفاً، ويُقدَّم العنف الذي يكابده قاطنوه عَرَضَاً لهذا التخلّف. العكس هو الصحيح. السودان في طليعة التغيير العالمي. وقد كانت أنظمته خلال القرن العشرين رائدةً في استخدام المليشيات الريفية أو «القبَلية»، وتجنيد المقاتلين من المجتمعات القبَلية على أساس صلات القُربى، وتوظيف ذلك كلّه لإعادة ترتيب الإدارة الريفية واستخلاص الموارد. يمكن لحكومة الرئيس السابق عمر البشير أن تدّعي شرعياً ابتكارها لهذا النظام الذي يَستخدم الميليشيات ليحرِّض الجيران على بعضهم بعضاً، كي يصل النفط أو المعادن الأخرى إلى السوق العالمي. وقد وُجِد هذا النظام في السودان لسنوات عدة قبل أن يبدأ بتنظيم إنتاج الصادرات إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والبحيرات العظمى.
جلبت ميليشيات عمر البشير النيوليبرالية ثروات الريف السوداني إلى الأسواق العالمية بتبنّي عناصر أساسية في البرنامج السياسي النيوليبرالي. فقد خَصْخَص الرجل أنظمة الإنتاج والأمن، وأتاح للأسواق أن تُنظِّم نفسها، وسَحق الاتحادات المهنية والخدمات المجتمعية. لم يكن هذا تحديداً ما خطر على بال صندوق النقد الدولي، لكن بوسعهم العمل بما قدّمه لهم البشير ورجال أمنه.
في يومنا هذا، وعبر نطاقات الفوضى الممتدّة من أفغانستان حتى الصحراء الكبرى والكنغو، عَلَّمت المليشيات السكّانَ المتجاورين في الأرياف أن يزوِّدوا الأسواق العالمية بالاقتتال في ما بينهم. أصبحت هياكل المليشيات النيوليبرالية، التي تُنعَت خطأً بالقبَلية أو الطائفية، جوهريةً للمستهلكين حول العالم. تجلب هذه المليشيات إلى السوق الهيدروكربونات والليثيوم والكوبالت والهيروين والذهب والعمالة المهاجرة؛ مهرَّبة كانت أم مُفقَرة، ومجموعاً من الموارد الأخرى لا غنى للحياة الحديثة عنها.
جلبت ميليشيات عمر البشير النيوليبرالية ثروات الريف السوداني إلى الأسواق العالمية بتبنّي عناصر أساسية في البرنامج السياسي النيوليبرالي. فقد خَصْخَص الرجل أنظمة الإنتاج والأمن، وأتاح للأسواق أن تُنظِّم نفسها، وسَحق الاتحادات المهنية والخدمات المجتمعية. لم يكن هذا تحديداً ما خطر على بال صندوق النقد الدولي، لكن بوسعهم العمل بما قدّمه لهم البشير ورجال أمنه.
في 2025، يُستبدَل نظام التجارة النيوليبرالي، الذي ساعد في خلق نظام الميليشيات السوداني، بالضرائب والتكتلات التجارية وتحجيم التبادل التكنولوجي، وتقييد هجرة العمالة. يحل نوع جديد من المِرْكَنْتِيلِيّة محل التجارة العالمية الحرة. المِرْكَنْتِيلِيّة mercantilism كلمة قديمة للقومية الاقتصادية، التي تسعى لتعظيم صادرات البلاد وتقليص وارداتها إلى أقصى حدّ. تسعى المِرْكَنْتِيلِيّة لاكتناز الثروة داخل حدود البلد، ولاستخدام التجارة للهيمنة على الدول الأخرى. وقد كانت هي العقيدة الاقتصادية التي برّرت حروب النهب الأوروبية الأولى وصعود النظام الاستعماري الأوروبي.
أدّى السودان دَوراً مهماً في تفسير الوصفات الطبية النيوليبرالية في سياقٍ أفريقي، فأيّ دَور سيؤديه في نظام مِرْكَنْتِيلِيّ جديد؟
مرة أخرى، يمكن أن تُساعدنا إحصاءات التجارة الخارجية في فهم الأمر.
لقد اتجهت أكثر من نصف صادرات السودان في 2024 إلى بلد واحد، وأمدّ البلد ذاتُه السودانَ بخُمس وارداته: الإمارات العربية المتحدة. تتهم الحكومة السودانية الإمارات بتوفير الدعم العسكري لقوات الدعم السريع، وفي 2025 اتهمت الإمارات بدعم تصفية عِرقيّة في السودان. لكن في الوقت ذاته تُرسل الحكومةُ الثرواتِ التي يخلقها السودانيّون باستخدام موارد بلدهم إلى السوق الإماراتية. تفوز الإمارات بجميع الرهانات في السودان.
تلعب الإمارات بالفعل دَوراً خاصاً في تحوّل أفريقيا إلى نظام اقتصاد مِرْكَنْتِيلِي. وهي دولة من طراز خاص: ضئيلة ومتضخّمة، وريعية وسُلطويّة، وتوسّعية ومِرْكَنْتِيلِية. وهي رابع أكبر مستثمر في أفريقيا، وتُشغِّل ثروةُ صناديقها السيادية حوالي عشرين ميناءً حول القارة.
في مقال بصير نشرته مجلة «أتَـر» العام الماضي، جادل عارف الصاوي بأنّ دعم الإمارات لقوات الدعم السريع مرتبطٌ بهذه الشبكة المُسيطرة على الموانئ الإفريقية.
مثلما احتاج عمر البشير إلى مليشيات تجلب النفط والذهب إلى الأسواق العالمية، تحتاج الإمارات إلى مليشيات تحمي استثماراتها وخطوط إمدادها. يعمل الدعم السريع، وربما خليفته، كفاغنر أو بلاك ووتر، على تأمين الأسواق لوكلائهم العالميين. تقترح إحصائيات تجارة السودان الخارجية أنّ نظام مُصادرة ثروات إفريقيا، وتمريرها عبر الموانئ الخاضعة للسيطرة الأجنبية وتكديسها في الدويلات البعيدة، يجدي نفعاً مع الإمارات.
الصادرات مستقرّة، وقد استطاعت الإمارات أن تحافظ على معدَّلات الاستخلاص والربح، مهما كلَّف الأمرُ السودانيين؛ مالكي وصانعي هذه الثروة.